الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (19)

  • 102

قصة بناء الكعبة (17)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

الفائدة الثامنة:

قال ابن عباس -رضي الله عنهما- في الحديث: "فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ في الأرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عليه، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حتَّى إذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإنْسَانِ المَجْهُودِ حتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا ونَظَرَتْ: هلْ تَرَى أَحَدًا؟ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذلكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ"، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: قالَ النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ-: (فَذلكَ سَعْيُ النَّاسِ بيْنَهُما)، فَلَمَّا أَشْرَفَتْ علَى المَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا، فَقالَتْ: صَهٍ -تُرِيدُ نَفْسَهَا-، ثُمَّ تَسَمَّعَتْ، فَسَمِعَتْ أَيْضًا، فَقالَتْ: قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ".

دلَّ هذا الجزء من الحديث على أصل مشروعية السعي بين الصفا والمروة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158)، وسعى النبي -صلى الله عليه وسلم- بينهما في حجه وعمرته، وقال: (لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ) (رواه مسلم)، وقال: (اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ) (رواه أحمد، وصححه الألباني).

ومفيد لنا في هذا الأمر: استحضار حالة هاجر -رضي الله عنها- وهي في شدة العطش والإجهاد، والخوف على نفسها وابنها الذي تراه يصارع الموت، وتحاول أن تسابق الزمن لتصل إلى غواثٍ قبل أن يموت ابنها، وربما لحقته هي أيضًا؛ بسبب هذا العطش الشديد، فهي تأخذ بالأسباب مرات قدر طاقتها.

وقدَّر الله أن تكون أشواطها سبعًا قبل أن تسمع صوت المَلَك بما شرعه الله للمسلمين من السعي سبعًا بين الصفا والمروة، وفي كل مرة تقف على الصفا ثم المروة ولا تجد أحدًا، وتسعى في بطن الوادي -وهي المسافة بين الميلين الأخضرين حاليًا-؛ لأنها المنطقة الوحيدة المنبسطة بين الجبلين التي استطاعت سرعة السعي فيها قليلًا، وهي في غاية الإجهاد والتعب والعطش.

فلنبذل كل ما في وسعنا في طاعة الله، ولنأخذ من الأسباب ما نستطيع؛ ولكن ليكن تعلقنا وافتقارنا بالله -سبحانه وتعالى- حده، ونتضرع إليه وحده، كما كانت تفعل هاجر وهي تسعى بين الصفا والمروة، وهي التي رضيت بالله ربًّا لا يضيعها هي وابنها، ولنجتهد ونحن في السعي؛ فلنستحضر حالها ونتشبه بها في دعائها وتضرعها حتى تجد غواثًا -رضي الله عنها-.

ثم في نهاية الشوط السابع على المروة أتتها بشائر الفرج وإجابة الدعوات؛ حين سمعت صوتًا فسكَّتت نفسها بقولها: "صَهٍ" تتسمَّع؛ فسمعت الصوت مرة أخرى، فتأكدت من وجود أحدٍ وأن الأمر ليس خيالًا، فنادت مَن علمت وجوده وإن لم ترَ شخصه، فقالت: "قدْ أَسْمَعْتَ إنْ كانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ".

ذكر ابن حجر -رحمه الله- في رواية إبراهيم بن نافع: "أنها كانت في كل مرة تتفقد إسماعيل وتنظر ما حدث له بعدها، وفي روايته: فلم تُقِرُّها نفسُها فتشاهده في حال الموت، فرجعت" (انتهى).  

هذا يوضِّح لنا قدرَ الصبر والمعاناة التي عانتها هاجر -عليها السلام- وهي تحدِّث نفسها في كل سعيها بموت ابنها، وتتوقعه في كل مرة، فإذا وجدت أنه لم يمت لم تتركها نفسها أن تنظر إليه؛ فتعود للسعي إلى أن جاء الفرج في نهاية السعي في الشوط السابع الذي سعته في شمس حارة وأرض غير ممهدة، وتسير على صخور جبلية ومرتفعات إلا جزءًا يسيرًا هو بطن الوادي، وهي جائعة عطشى مجهدة -رضي الله عنها وأرضاها-، ولقد أكرمها الله فصارت الأسوة الحسنة لآلاف الملايين عبر الأزمنة في السعي بين الصفا والمروة، وفي الافتقار لله والتضرع له، والرضا به ربًّا معينًا، وكمال التوكل عليه وحده.

الفائدة التاسعة:

قوله: "فَإِذَا هي بالمَلَكِ" -وفي رواية: "فإذا جبريل"-: قال ابن حجر -رحمه الله-: "وفي حديث علي عند الطبري بإسنادٍ حسنٍ: فنادَاها جِبريلُ، فقال: مَن أنتِ؟ قالت: أنا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ، قال: فَإِلى مَن وَكَلَكُما؟ قالت: إلى اللهِ. قال: وَكَلَكُما إلى كافٍ" (انتهى).

وهذا فيه إثبات كرامة الأولياء برؤية الملائكة ورؤية جبريل -عليه السلام- خاصةً، وسماع كلامهم، وهذا مِن أعظم الكرامات، ولا أعلم نزاعًا في عدم نبوة هاجر -رضي الله عنها-، لكنها أم ولد لنبي، وأم نبي، وجدة نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.

وفي هذه الرواية -التي ذكرها ابن حجر عند الطبري في سؤال جبريل لها: "مَنْ أَنْتِ؟"- لم تَنْسِب هاجر نفسها إلى أبيها، ولا إلى قبيلتها، ولا إلى بلدها الأصلي مصر، بل لم تنسب نفسها إلا إلى إبراهيم -عليه السلام-، بقولها: "أنا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ"، فالانتساب إلى الأنبياء والصالحين -ولو على سبيل الرق- هو الشرف، فصحبتها لإبراهيم -عليه السلام- هي التي غيَّرت حياتها إلى معرفة الله وتوحيده، ومحبته، والتوكل عليه والثقة به -سبحانه وتعالى-؛ إذ لم تتعلم هذا من أهلها، ولا قومها المشركين؛ قوم الجبار الذي أراد سارة بسوء فكفَّ الله يده عنها ثلاث مرات، فأطلقها وأعطاها هاجر، فوهبتها سارة لإبراهيم -عليه السلام- يتخذها سُرِّيَّة علامة على جودها وكرم خلقها وتضحيتها في سبيل مَن تحب، زوجها إبراهيم -النبي الكريم صلى الله عليه وسلم-، فاتخذها إبراهيم سُرِّيَّة، وليست زوجة؛ ولذا لم تقل: "أنا زوجة إبراهيم"، بل قالت: "أَنَا هاجَرُ أُمُّ وَلَدِ إبراهيمَ".

فقد بلغ حبُّ إبراهيم -عليه السلام- في قلبها مبلغًا أنساها أن تنتسب إلى غيره، -أو تعمدت عدم الانتساب لغيره- مِن الأهل والقبيلة والوطن، وهذا يعلِّمنا: أنه لا قيمة لنا إلا باتباع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- والانتساب إليهم، ولا سبيل لذلك إلا باتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي علَّمنا الله به سيرتهم وهديهم، وعملهم، وعمل أهلهم وأصحابهم.

ووالله إن البشرية لا تساوي شيئًا دون تعليمهم وهدايتهم التي هدانا الله بها؛ فلنحذر أن نعظِّم مِن أهل أو قرابة ولو كان أبًا أو أمًّا أو مالًا أو وطنًا فوق تعظيمنا وتوقيرنا للأنبياء، وخاصة محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فبه رحمنا الله، ونسأل الله أن يرحمنا في الآخرة كما رحمنا به في الدنيا، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).

وفي امتحان جبريل -عليه السلام- لها بقوله: "إلى مَن وَكَلَكُمَا؟": تذكير لها بلحظة سؤالها لإبراهيم -صلى الله عليه وسلم- وهو مرتحل عنها إلى الشام "آللهُ أَمَرَكَ بِهَذا؟ قال: نعم، قالت: إذًا لا يُضَيِّعُنا"، فجبريل -عليه السلام- يؤكِّد لها: أن حسن ظنها بربها ورضاها به ربًّا معينًا لا يضيعها هي وابنها، كان في موضعه، فالله هو الذي أرسله لكفايتها وابنها من عنده -سبحانه-، فقال: "وَكَلَكُمَا إلى كَافٍ"؛ هو -سبحانه- لم يضيعهما، ولم يتركهما، بل كفاهما من فضله، ورحمته وغناه، وكرمه وإحسانه، قال الله -تعالى-: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق:3)، فهو -سبحانه- حسبنا ونعم الوكيل، وهو حسب كلِّ مَن توكل عليه ورضي به.

فاللهم إنَّا نشهدك أنَّا رضينا بك ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم- نبيًّا.