الطريق إلى علو الهمة بعد رمضان

  • 326

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد اعتادت نفوسنا على البحث عن كل طريق للخير يرضي ربنا -جل وعلا- في رمضان، فهل ستستمر إلى نهاية أجلها أم هل ركبت سفينة الغفلة مرة ثانية؟!

إننا جميعًا في مركبٍ واحدةٍ، تعلو همتنا أحيانًا وتسفل في أحيان أخرى كثيرة، فلا أقل من أن نأخذ على أيدي بعضنا بعضًا، ونذكر بعضنا؛ ولذا جمعتُ بين أيدينا علامات وإشارات؛ لعلها تجد طريقها في قلوبنا بأمر ربها -عز وجل-.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "إن الله لم يجعل لعمل المؤمن أجلًا دون الموت، ثم قرأ: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (لطائف المعارف).

واجتمع عبد الله بن عمر، وعروة بن الزبير، ومصعب بن الزبير، وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: "تمنَّوا"، فقالوا: "ابدأ أنت"، فقال: "وِلاية العراق، وتزوُّج سُكَينة ابنة الحسين، وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله"، فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهَّزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه، وأن يُحمل عنه الحديثُ، فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة، فنالها"، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة.

همم وقمم وطلبات وأمنيات، فمِن أسباب الارتقاء بالهمم:

1- اللهج بالدعاء في الليل والنهار:

وفي الشغل والراحة، وفي السلامة والعافية، وفي رمضان وغيره، في كل زمان وفي كل مكان، فنحن بالله أقوياء عظماء الهمم، وبدونه لا نساوي ما لا قيمة له عند كل الناس، فيا عظم أمر مَن رُزق الصدق في الدعاء والتبتل إلى الله -تعالى-!

يا علو منزلته مَن دار في فلك الإخلاص! فعن طاووس -رحمه الله- قال: "يكفي الصدق من الدعاء، كما يكفي الطعام من الملح" (شعب الإيمان).

وكذلك يلزمنا أن نفهم اننا غرقى والدعاء إحدى المنجيات، فعن حذيفة قال: "ليأتينَّ على الناس زمان لا ينجو فيه إلا مَن دعا بدعاء كدعاء الغريِق" (أخرجه ابن أبي شيبة، والبيهقي في شعب الإيمان).

2- العلم عن الله -تعالى- وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم-:

فكلما زدنا علمًا زادت الهمم، وعظم القصد وصفت النية، واشتد العمل ويقظ القلب، واتضح الطريق وبانت بركته، قال -تعالى-: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ: 6)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كنت آتي باب أُبيِّ بن كَعْب وهو نائم، فأقيل على بابه" -ينتظر حتى يخرج يأخذ منه الحديث- (رواه الدارمي).

وقال الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "مَن أعمل فكره الصافي دلَّه على طلب أشرف المقامات، ونهاه عن الرضا بالنقص في كل حال، فينبغي للعاقل أن ينتهي إلى غاية ما يُمكنه، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات، لرأيت مِن أقبح النقائص رضاه بالأرض، ولو كانت النبوَّة تحصل بالاجتهاد، رأيت المقصِّر في تحصيلها في حضيض، غير أنه إذا لم يمكن ذلك، فينبغي أن يطلب الممكن، والسيرة الجميلة عند الحكماء: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل؛ (صيد الخاطر، ص173).

3- توحيد القصد والغاية، والسعي لطلب وجه الله والدار الآخرة:

فليس بعد الآخرة ولا قبلها أهم، فالله يصطفي أهل الإخلاص -رزقنا الله وإياكم الإخلاص، وصدق النوايا- وحب العمل للآخرة-، قال -تعالى-: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا) (الإسراء:١٩).

ومَن قصد بعمله الصالح ثواب الدار الآخرة الباقية، وسعى لها بطاعة الله -تعالى- وهو مؤمن بالله وثوابه، وعظيم جزائه؛ فأولئك كان عملهم مقبولًا مُدَّخرًا لهم عند ربهم، وسيثابون عليه. (التفسير الميسر).

4- كثرة ذكر الموت:

فإن كثرة ذكر الموت، يوقظ القلب القاسي، ويذوب صلادته، ويكون على وجل مِن شأنه واستعدادًا لأمره، فالأمر مرعب، والموت صعب على مَن غفل عنه ولم يعد له عدته، فيا رب سلِّم سلِّم! قَالَ صَالِحُ المُرِّيُّ -رحمه الله تَعَالَى-: "إِنَّ ذِكْرَ المَوْتِ إِذَا فَارَقَنِي سَاعَةً، فَسَدَ عَلَيَّ قَلْبِي".

وقال أبو الدرداء -رضي الله عنه-: "أضحكني ثلاث، وأبكاني ثلاث: أضحكني مؤمل الدنيا والموت يطلبه، وغافل ليس بالمغفول عنه، وضاحك ملء فيه ولا يدري أراضٍ الله عنه أم ساخط عليه، وأبكاني فراق الأحبة محمد -عليه الصلاة والسلام- وحزبه، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الله يوم تبدو السرائر، ثم لا أدري إلى أين أصير: إلى الجنة أم إلى النار" (عيون الأخبار لابن قتيبة).

5- ألا تفارق صحبة أهل المساجد والقيام والقرآن:

وقد بان لنا جميعًا أثر الصحبة في رمضان الماضي حيث التجمع والارتباط، وعلو الهمة من رمضان الذي قبله وقد أغلقت المساجد فيه، فالصحبة معينة، والهمم وليدة لها، وقد قالت العرب: "لولا الوئام لهلك الأنام" (علو الهمة للشيخ محمد إسماعيل المقدم).

وقال جعفر بن سليمان -رحمه الله-: "كنتُ إذا وجدت من قلبي قسوة؛ غدوت فنظرت إلى وجه محمدٍ بن واسع، كأنه وجه ثكلى -وهي التي فقدت ولدها-" (حلية الأولياء).

وقال الإمام الزاهد عبد الله بن المبارك -رحمه الله-: "إذا نظرتُ إلى الفضيل جدَّدَ لي الحزن، ومقتُّ نفسي، ثم بكى!" (السير للذهبي).

فالله الله في صحبتكم في المساجد؛ فإنهم أقوام اجتمعوا على الخير وللخير، فلا تفرطن فيهم أبدًا، ولا تتنازلوا عنهم؛ فهم أعوان على الخير، وإياكم وما يُهلَك به ويغفل عنه.

ولنحذر جميعًا أسباب دنو الهمة، والتي منها:

1- المعاصي والذنوب، فهن المهلكات الهالكات: قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-: "فالذنب يحجب الواصل، ويقطع السائر، وينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي ستسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعًا يبعد تداركه، فالله المستعان" (الجواب الكافي).

2- تضييع الأوقات: وهي رأس المال الحقيقي، فالمفلس مَن أضاعها فيما لا طائل مِن ورائه، ولا فائدة!

3- حب الدنيا والتعلق بها: لأن حب الدنيا والتعلق بها وراء كل بلية وشر، وفتور، وقسوة وجمود.

4- الغفلة التي تولِّد التسويف والتمني: قال عمر -رضي الله عنه-: "الراحة للرجال غفلة"، وقال شعبة بن الحجاج: "لا تقعدوا فراغًا، فإن الموت يطلبكم".

5- ملازمة أهل الدنايا ومُلَّاك الشهوات والنزوات: مَن جل همهم أن يشغلوا دنياهم بهواهم!

وفي الختام: أسأل الله العلي القدير أن يمن علينا بهمة عالية إلى آخر نفس فينا، تكون لنا ذخرًا عند لقائه، ومعينًا لنا عند حسابه.

اللهم آمين.