تجديد الإيمان بآيات الرحمن من سورة الحجرات (6)

  • 78

(وَلاَ تَجَسَّسُوا)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال العلماء: التجسس هو البحث عن العورات، وغالبًا يطلق في الشر، ومنه: الجاسوس. والتحسس بالحاء: الاستماع لحديث القوم، ويكون التحسس غالبًا في الخير، كما قال -عزَّ وجلَّ- إخبارًا عن يعقوب -عليه السلام-: (يَا بنيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله) (يوسف:87).

وقيل: هما بمعنى، وهو طلب معرفة الأخبار الغائبة والأحوال. والمعنى: لا تبحثوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوا معايبهم.

وروى الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، ولا يخطبُ الرَّجلُ على خِطبةِ أخيه حتَّى يَنكِحَ أو يَتركَ).

وقد حثَّتِ الشَّريعةُ على الإصلاحِ بين المسلِمينَ، وتوطيدِ الأُخوَّةِ والاجتماعِ بينهم، ونهتْ عَنْ كلِّ ما يدعو لِلفُرقَة والتَّباغُضِ والعداوةِ، وفي هذا الحديثِ نهى -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وحَذَّرَ مِن بعضِ ما يُؤدِّي إلى هذه الفُرقَةِ والعَداوةِ والتَّباغضِ، فحذَّر -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مِنَ الظَّنِّ، يعني سُوءَ الظَّنِّ بِالمسلِمين، والحديثَ بما لم يُتيقَّنْ مِنَ الأخبارِ، وقال: (فإنَّ الظَّنَّ أكذبُ الحديثِ)، أي: يَقعُ الكذبُ في الظَّنِّ أكثرَ مِن وقوعِه في الكلامِ.

وعن زيد بن وهب -رضي الله عنه- قَالَ: أُتِيَ ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بِرَجُلٍ فَقِيلَ لَهُ: هَذَا فُلَانٌ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خمرًا، فقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، وَلَكِنْ إِنْ يظهر لنا شيء نأخذ به" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

ومن ذلك أيضًا: ما يفعله بعض الناس عندما يتكلمون في المحمول، ويفتح الصوت الخارجي؛ فهذا لا يجوز إلا أن تخبر المتصل أن كلامه يسمعه آخرون؛ ليكون على بينةٍ مِن أمره؛ وكذلك لا يجوز تسجيل المكالمات دون علم المتصل إلا بعلمه، فليس ذلك من المروءة، وكلها أشياء تكون سببًا في قطع العلاقات، ووقوع التدابر بين الناس، ولاحول ولاقوة إلا بالله.

والمنافسة والتنافس معناهما: الرغبة في الشيء وفي الإنفراد به، ونافسته منافسة: إذا رغبت فيما رغب فيه. والحسد: تمني زوال النعمة.

وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ولا يخطبُ الرَّجلُ على خِطبةِ أخيه حتَّى يَنكِحَ أو يَتركَ)، يعني: إذا أرادَ مسلِمٌ خِطبةَ امرأةٍ وظَهَر ذلك وتقدَّمَ لِخطَبتِها، فلا يحاولُ رجلٌ آخَرُ أنْ يَخطُبَها لِنفسِه، وهذا الخاطبُ الأوَّلُ إمَّا أنْ يُتمَّ الزَّواجَ فتمتنِعَ الخِطبةُ قطعًا، أو يَتركَ الخِطبةَ، وفي هذه الحالةِ يحقُّ لِأيِّ أحدٍ التقدُّمَ لخِطبةِ هذه المرأةِ.

وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.