مقاصد المُكلفين (25)

  • 74

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلقد استعرضنا في مقالنا السابق مسألة التهرب من العبادة بالحيل، وفي هذا المقال نلقي الضوء على مسألة: "تأثير القصد والنية في الأفعال"، وينبثق من هذه المسألة مسألة أخرى مهمة، وهي: هل من الممكن أن تتحول المباحات: كالنوم والأكل والشرب ونحو ذلك، بالنية الصالحة إلى قربة وطاعة يثاب فاعلها؟

والحقيقة أن أهل العلم قد اختلفوا في هذه المسألة على قولين: فذهب فريق من العلماء إلى أن المباح لا يُتقرب به إلى الله -تعالى-، فلا معنى للنية فيه، وحول هذا المعنى قال الإمام القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: "مَا لَمْ يَشْرَعْهُ اللَّهُ قُرْبَةً وَلَا نَدَبَ إِلَيْهِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِأَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ مُتَقَرِّبٌ"، وقال الحارث المحاسبي: "النية فيما ليس فيه ثواب لا تحضر، ولا نية في ذلك، ومَن أراد الله -عز وجل- في ذلك فمغرور غالط".

وذهب فريق آخر من العلماء إلى أن: النية الصالحة تُحوِّل المباح إلى قُربة يؤجر عليها صاحبها، قال ابن الحاج المالكي في كتاب المدخل: "المباح ينتقل بالنية إلى الندب، وإن استطعنا أن ننوي بالفعل نية أداء الواجب كان أفضل من نية الندب، للحديث:  (وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ) (رواه البخاري).

وذكر ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين أنَّ خواص المقربين هم الذين انقلبت المباحات في حقهم إلى طاعات وقربات بالنية، فليس في حقهم مباح متساوي الطرفين، بل كل أعمالهم راجحة.

ولعل مراد الفريق الأول: أن المباحات لا يُقصد التقرب بذواتها كما يتقرب بالصلاة وقراءة القرآن والزكاة، فالفريق الأول ينكر أن تكون المباحات عبادات وقربات في صورتها،  ولكن تكون المباحات وسيلة للعبادات، وبهذا يزول الخلاف بين الفريقين؛ ولذا قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "ينبغي ألّا يفعل من المباحات إلا ما يستعين به على الطاعة، ويقصد الاستعانة بها على الطاعة".

وقال ابن الشاط: "إذا قصد بالمباحات التقوي على الطاعات، أو التوصل إليها كانت عبادة؛ كالأكل والنوم، واكتساب المال، ونحو ذلك"، فالمسلم إذا قصد بنومه وأكله وشربه أن يتقوى بها على طاعة الله، كي يتمكن من قيام الليل والصيام والجهاد في سبيل الله، فهذا مثاب على هذه الأعمال بهذه النية.

وقد صحَّ عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لسعد بن أبي وقاص: (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ) (متفق عليه).

قال النووي -رحمه الله- معلقًا على الحديث: "وضع اللقمة في في الزوجة يقع غالبًا في حال المداعبة، ولشهوة النفس في ذلك مدخل ظاهر، ومع ذلك إذا وجَّه القصد في تلك الحالة إلى ابتغاء الثواب حصل له -بفضل الله-".

وقال محمد البكري الشافعي صاحب دليل الفالحين: "وفيه: أن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد وجه الله -تعالى- به، وفيه أنَّ المباح إذا قصد به وجه الله صار طاعة، ويثاب عليه؛ إذ وضع اللقمة في فم امرأته إنّما يكون في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الآخرة، ومع ذلك فقد أخبر الشارع بأن ذلك يؤجر عليه بالقصد الجميل، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا قصد به وجه الله، ويؤخذ من ذلك: أنَّ الإِنسان إذا فعل مباحًا من أكل أو شرب وقصد به وجه الله كالاستعانة بذلك على الطاعة وبالنوم على قيام الليل يثاب عليه".

وأوضح من هذا الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَطْعَمْتَ زَوْجَتَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ خَادِمَكَ فَهُوَ لَكَ صَدَقَةٌ) (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني).

قال السيوطي -رحمه الله- في شرح النسائي: "ومِن أحسن ما استدلوا به على أن العبد ينال أجرًا بالنية الصالحة في المباحات والعادات، قوله -صلى الله عليه وسلم-: (الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ، وَلِامْرِئٍ مَا نَوَى) (متفق عليه)، فهذه يُثَاب فاعلها إذا قصد بها التقرب إلى الله، فإن لم يقصد ذلك؛ فلا ثواب له".