من صفات الخليل عليه السلام

  • 172

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فالإنسان في حياته يحتاج إلى الأسوة والقدوة، يرفع بها همته، وتدفعه إلى المسارعة في العمل كما اجتهدوا، كما قال أبو مسلم الخولاني: "أيظن أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمنهم عليه زحامًا حتى يعلموا أنهم قد خلَّفوا وراءهم رجالًا".

ويستفيد في أموره ودعوته وأحوال أمته، من هديهم وتوجيههم، وليس مثل الأنبياء أسوة وقدوة: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) (الأنعام:90)؛ ولذا أمرنا الله -تعالى- أن نتخذهم أسوة وقدوة، نأتسي بهم، ونتعلم منهم، ونتصف بصفاتهم، ونتخلق بأخلاقهم.

ومن أنبياء الله الذين ذكر الله -تعالى- وصفهم في القرآن: الخليل إبراهيم -عليه السلام-، فجاء في سورة النحل: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (النحل: 120- 121)، وفي سورة هود: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (هود: 75).

فوصفه بأنه (أُمَّةً)، أي: معلمًا للخير، يأتم به أهل الخير في الدنيا، فهنيئًا لمَن كان سببًا في إحياء سنة، أو دعا إلى هدى، أو تعلم الناس على يديه أمرًا من أمور دينهم، واقتدى الناس به في عمل الخير، من قوله أو سمته أو سلوكه أو أخلاقه.

 ومن معنى أمة أيضًا: أنه اجتمع فيه من الخصال الحميدة ما يجتمع في أمة بأسرها، فأي رجل كان هو عليه الصلاة والسلام! رجل واحد، لكنه في همته، وعزيمته، وعمله، ودعوته، وبذله وجهده، وتأثيره في الناس، يساوي أمة بأسرها، وصدق من قال: "إن رجلًا واحدًا لو صحت رجولته باستطاعته أن يبني أمة!".

وهناك رجل بأمة، ورجل بألف، ورجل بخف، وآخر لا يساوي حتى الخف!

لما أرسل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- رسالة في فتح مصر: "إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كلِّ ألف رجل منهم رجل مقام الألف: الزبير بين العوَّام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلّد"، وقال آخرون: "بل خارجة بن حذافة الرابع، لا يعدّون مسلمة".

الصفة الثانية: (قَانِتًا لِلَّهِ)، أي: عابدًا خاضعًا، تلمس الطاعة والاستسلام في كل أموره، وهذه حقيقة العبودية، كما قال الأسود بن يزيد: إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئًا إلا جئت به، فلما أمر عليه السلام بوضع ولده -الذي جاء بعد شوق واشتياق، وطول انتظار- في مكة بعيدًا عنه، بادر بلا توانٍ، ولما أمر بذبحه سارع لتنفيذ الأمر، فالاتباع والطاعة والمبادرة إلى تنفيذ أمر الله وأمر رسوله ركيزة أساسية في حياة المسلم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران: 31)، قال الحسن: ادَّعى قوم محبة الله، فابتلاهم الله بهذه الآية.

الصفة الثالثة: (حَنِيفًا): مائلًا عن الباطل عمدًا إلى الحق، فقد يعرض عليك الباطل مزين، ومعه التأويل، وبثمن كبير، مقابل التنازل عن ثوابت أو مبادئ أو أخلاق، فإياك إياك أن تميل إلى الباطل، وترغب فيه، مهما كان الثمن من متاع الدنيا، وإياك أن يزين لك الشيطان التأول فترتكب الحرام، وسل الله الثبات إلى أن تلقاه.

الصفة الرابعة: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ)، ونعم الله على كل إنسان لا تعد ولا تحصى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (النحل: 18).

انظر لنعم الله في جسدك وأولادك وأهلك، والكون من حولك، هل تستطيع العد؟ لا، والذي رفع السماء بلا عمد، لا تستطيع عدَّ نعم الله عليك في ثانية واحدة، فضلًا عن ساعة، فضلًا عن عمرك كله، فلا تكن صاحب نظرة قاصرة، تنظر إلى ما فقدته فقط، وهذا الذي فقدته لا يساوي شيئًا بجانب النعم التي لا تحصى، بل، قد يكون ما فقدته خير لك: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، وتأمل ختام الآية جيدًا، فكن شاكرًا لأنعم ربك، وقيِّد النعم بالشكر.

الصفة الخامسة: (لَحَلِيمٌ) أي: حليم لا يعجل، وصفة الحلم من الصفات التي يحبها الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (يَا أَشَجُّ، إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا تَخَلَّقْتُهُمَا، أَوْ جَبَلَنِي اللهُ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا)، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ" (رواه مسلم)، ويتعلم الإنسان الحلم حتى يصير حليمًا.

ومن معنى الحليم: الصفوح عن الذنوب؛ فهو رقيق القلب، كثير العفو والصفح؛ لعل الله أن يعفو عنه.

الصفة السادسة: (أَوَّاهٌ): الأواه لها عدة معانٍ، وهي: الخاشع المتضرع، الدَّعَّاء (كثير الدعاء)، الرحيم بخلق الله، الموقن، المسبِّح، المتأوه لذكر عذاب الله (أي: خائف من عذاب الله)، الفقيه، المؤمن، فهنيئًا لمَن اتصف بهذه الصفات.

الصفة السابعة: (مُنِيبٌ): أي: كثير التوبة والاستغفار، مع الاجتهاد في العمل الصالح، رغم أنه الخليل، والخليل محمد -صلى الله عليه وسلم- كان يكثر من الاستغفار؛ فكيف بأصحاب الذنوب أمثالنا؟!

وصلِّ اللهم وسلم على عبدك ونبيك وخليلك محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.