رحمة للعالمين

  • 106

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال -سبحانه وبحمده-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: ١٠٧)، فهو -صلى الله عليه وسلم- رحمة للعالمين لمَن آمن به وحتى مَن لم يؤمن به، كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "هُوَ عَامٌّ فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ؛ فَمَنْ آمَنَ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ فَهُوَ رَحْمَةٌ لَهُ فِي الدُّنْيَا بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، وَرَفْعِ الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ، وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْهُمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ‏-صلى الله عليه وسلم-‏: إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ" (تفسير البغوي).

وحتى فيما جاء به -صلى الله عليه وسلم- مِن تشريعاتٍ فيها حدود وعقوبات، ونضرب على ذلك مثالًا: قوله -تعالى-: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة:١٧٩)، فهذا حُكْمٌ في ظاهرهِ الشدة والقسوة، وفي باطنه الرحمة والرأفة لمَن أعمل عقله وتدبر وتمعن فيه لأجل ما يترتب عليه مِن ارتداع الناس عن القتل وحفظ الأرواح وحياتها به، فقد سمَّاه أرحم الراحمين: (حَيَاةٌ).

قال القاسمي -رحمه الله- في محاسن التأويل: "وقوله -تعالى-: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)، كلام في غاية الفصاحة والبلاغة؛ لما فيه من الغرابة، حيث جعل الشيء محل ضده، فإن القصاص قتل وتفويت للحياة، وقد جُعِل مكانًا وظرفًا للحياة، وعَرَّف القصاص ونَكَّرَ الحياة؛ ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم -الذي هو القصاص- حياةٌ عظيمة؛ وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مُهَلْهِلٌ بأخيه، حتى كاد يفنى بكر بن وائل! وكان يقتل بالمقتول غيرَ قاتله، فتثور الفتنة، ويقع بينهم التناحر، فلما جاء الإسلام بشرع القصاص كانت فيه حياة، أي: حياة أو نوع من الحياة، وهي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل؛ لأنه إذا هَمَّ بالقتل، فعَلِم أنه يُقُتَصُّ منه فارتدع، سلم صاحبه من القتل، وسلم هو من القَوْد، فكان القصاص سبب حياة نفسين".

قلتُ: وكذا أن الناس إذا رأوا القصاص ارتدعوا وانزجروا، وازدادوا خوفًا على خوفهم، أن يصيبهم ويحل بهم ما حل بالقاتل، أضف إلى ذلك: ما جعله الله لأولياء القتيل من الحق؛ إما بالقصاص أو العفو بِدِيَةٍ أو إن شاءوا عفوا عنه بالمجان، وذلك الحق جعله الله حفظًا للأنفس أن تُقْتَل بغير حق، أو أن يُساء لجثة القاتل بعد القصاص منه كما قال -سبحانه وبحمده-: (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) (الإسراء:33).

وإذا ما قارنت بين ذلك وبين تشريعات البشر الذين يظنون أنها فيها الرحمة والتخفيف، والتي يترتب عليها استهوانًا ولا مبالاة من البعض بها؛ لقصورها وعدم انضباطها، فالمقارنة بينها كالمقارنة بين العليم الحكيم وبين الإنسان الظلوم الجهول الذي لا علم له إلا ما علمه إياه العليم الحكيم، فلا شك أن العقل السديد يختار تشريعات الحكيم العليم -سبحانه وبحمده-؛ لذلك الإعراض عنها لا يزيد الأمر إلا سوءًا وفسادًا، فيترتب عليه  مزيد قتلٍ، وسلب وظلم لا يعلمه إلا الله؛ فيحصل الإفساد من حيث يظن الإصلاح، وهذا متيقن حصوله، بخلاف شريعة العليم الحكيم أرحم الراحمين فيها سعادة الدنيا والآخرة.

فمَن عرف ربه حقًّا فإنه يسلِّم لأمره ونهيه، وهو متيقن أن الخير كله في حكمه، فهو الخالق اللطيف الخبير، وهو أدرى بخلقه، فهو الذي خلقهم، فهو أعلم بهم من أنفسهم، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها، وبما يصلحهم فيأمرهم به وما هو ضد ذلك فينهاهم عنه، قال -سبحانه وبحمده-: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50).

وصلَّ اللهم وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.