(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (1)

  • 246

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد وصف الله -تعالى- كتابه العزيز بأعظم الأوصاف، وأكملها وأحسنها، وصفه بأوصاف تبيِّن طبيعته ووظيفته، وتثبت أهميته ومكانته العظيمة.

فمنها أنه: نور وشفاء، ورحمة وموعظة، وضياء وهدى، وروح وبصائر.

 ومن بين هذه الأوصاف التي تبيِّن قدره وجلالته ما ورد في قوله -تعالى-: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) (المزمل: 5).

قال العلامة الشنقيطي -رحمه الله- في أضواء البيان: "مَعْلُومٌ أَنَّ الْقَوْلَ هُنَا هُوَ الْقُرْآنُ، كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) وَقَوْلُهُ: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)، وَقَوْلُهُ: (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ)، وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا)، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ".

وقد اتفقت كلمة المفسرين على أن المراد بالقول الثقيل هو: "القرآن الكريم"، ومجمل أقوالهم في معنى (قَوْلًا ثَقِيلًا) اشتمل على معنيين أساسيين:

المعنى الأول: هو المعنى المعنوي، ومِن مظاهر هذا المعنى ودلائله الآتي:

1ـ ما اشتمل عليه من التكاليف العظام التي ناءت بحملها السماوات والأرض والجبال، وحملها الإنسان إنه كان ظلومًا جهولًا؛ وذلك لما تضمنته هذه التكاليف من الأوامر والنواهي، والفرائض، والحدود والأحكام، وما فيها من شدة وثقل على نفس المكلَّف، رغم كونها في مقدوره واستطاعته، فَهُوَ ثَقِيلٌ فِي وَزْنِهِ، ثَقِيلٌ فِي تَكَالِيفِهِ، وَلَكِنْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ وَيُيَسِّرُهُ لِمَنْ هَدَاهُ وَوَفَّقَهُ إِلَيْهِ، وهو ما بيّنه القرآن في وصف حال المكلفين مع الصلاة التي هي أهم أركان الدين، قال -عز وجل-: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة: 45)، والمعنى: واستعينوا على ترك ما تحبون من شهوات الدنيا، والدخول فيما تستثقله نفوسكم من قبول الإِسلام، والتقيُّد بتكاليفه، بفضيلة الصبر التي تحجز أنفسكم من غشيان الموبقات، وبفريضة الصلاة التي تنهاكم عن الفحشاء والمنكر. (التفسير الوسيط).

قال طلق بن حبيب: "إن حقوق الله أثقل من أن يقوم بها العباد، وإن نعم الله أكثر من أن تحصى، ولكن أصبحوا تائبين، وأمسوا تائبين".

ومع هذا، فالقرآن كله سهل في أحكامه وشرائعه، قد يسَّر الله -تعالى- لفظه للتلاوة والحفظ، ومعانيه للفهم والتدبر، لمَن أراد أن يتذكر ويعتبر، كما قال -تعالى-: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) (القمر:17).

فهو لا يأمر بشدة ولا بإجحاف، أو ظلم أو انحراف، بل يفيض رحمة وعدلًا، وسلامًا ونورًا على حامليه والقائمين تحت لوائه وسمائه، وصدق الله -تعالى-: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنعام: 115).

 فالثقل والمشقة إنما هي باعتبار حال أغلب المكلفين في أنفسهم، وما تهواه من التكاسل والراحة والدعة، وتميل إليه من الركون إلى الدنيا، والرضا والطمأنينة بها، فـإنما (الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ) -كما ورد في الحديث الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه-، فالفاجر يرى الدنيا كلها أمامه مباحة ومتاحة بلا زمام ولا خطام؛ لا يرى حرمة لربا، ولا لزنا، ولا لشرب خمر، ولا لغيره، فجميع الموبقات تحت يديه دون أي وازع داخلي ينهاه عن ذلك، بينما المؤمن مقيَّد بأحكام دينه الحنيف من الحلال والحرام، وغيره، فلا يقوم بمعاملة ولا يؤدي عبادة إلا قبل أن يسأل عن حكم الشرع فيها.

فلما كان كلام الله -تعالى- بهذا الوصف العظيم المهيب، ناسَب أن يؤخذ بقوة: (خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُواْ) (البقرة: 93)، وأن يعض عليه الإنسان بالنواجذ ويستمسك به: (فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الزخرف: 43)؛ لذا لن يحمل تكاليف هذه الدعوة ويصمد لها، ويتغلب على عقبات طريقها، ويصبر الصبر الجميل عليها، إلا الرجال الأقوياء الأشداء، العالمون العاملون.

2ـ وهو ثقيل؛ لما اشتمل عليه من الحجج الدامغة والدلائل الباهرة التي تقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، فلا تُبقِى لمعترض ولا مجادل حجة ولا برهان، قال -عز وجل-: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) (الشورى: 16)، وقال -سبحانه-: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18)، وقال -عز وجل-: (قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام: 149).

3ـ وهو ثقيل؛ لأنه كلام مهيب رصينٌ؛ لرزانة لفظهِ، ومتانة معناهُ، له وزن ورجحان ليس بالسفساف، ولا بالهذر، ولا بالسخيف المهلهل؛ إنه كلام عظيم، جليل القدر، كلام ذو خطر وعظمة؛ لأنه كلام رب العالمين، وكل شيء له قَدْر ومقدار؛ فهو ثقيل. قَالَ الْفَرَّاءُ: "ثَقِيلًا لَيْسَ بِالْكَلَامِ السَّفْسَافِ"، فهو ثقيل؛ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَعَانٍ وَافِرَةٍ يَحْتَاجُ الْعِلْمُ بِهَا لِدِقَّةِ النَّظَرِ، وَذَلِكَ بِكَمَالِ هَدْيِهِ وَوَفْرَةِ مَعَانِيهِ التي متى استقرت في القلب، ثبتت بيقينٍ دائمٍ لا يتزعزع.

وَلأَنَّهُ حَوَى مِنَ الْمَعَارِفِ وَالْعُلُومِ مَا لَا يَفِي الْعَقْلُ بِالْإِحَاطَةِ بِهِ، فَكَمْ غَاصَتْ فِيهِ أَفْهَامُ الْعُلَمَاءِ مِنْ فُقَهَاءَ، وَبُلَغَاءَ وَلُغَوِيِّينَ، وَحُكَمَاءَ، فَشَابَهَ الشَّيْءَ الثَّقِيلَ فِي أَنَّهُ لَا يَقْوَى الْوَاحِدُ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ بِمَعَانِيهِ!

وسئل مالك -رحمه الله- عن مسألة، فقال: "لا أدري. فقيل: هي مسألة خفيفة سهلة فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله -تعالى-: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)".

4ـ وهو ثقيل مِنْ جَانِبِ ثَوَابِهِ؛ فهو ثقيل في الميزان؛ لأنه تجارة الله الرابحة، فكما ثقل في الدنيا ثَقُل في الموازين يوم القيامة، فيُقال لقارئ هذا القول الثَّقيل يوم القيامة :( اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا) (رواه أحمد والترمذي، وصححه الألباني).

وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ الم حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.