تجديد الإيمان بآيات الرحمن من سورة الحجرات (7)

  • 98

(وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال الله -تعالى-: (وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا) أي: لا يذكر بعضكم بعضًا بالسوء في غيبته بما يكرهه (أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا) تمثيلٌ لشناعة الغيبة، وقبحها بما لا مزيد عليه مِن التقبيح، أي: هل يحب الواحد منكم أن يأكل لحم أخيه المسلم وهو ميت؟ (فَكَرِهْتُمُوهُ) أي: فكما تكرهون هذا طبعًا، فاكرهوا الغيبة شرعًا، فإن عقوبتها أشدُّ من هذا.

شبَّه -تعالى- الغِيبَة بأكل لحم الأخ حال كونه ميتًا، وإِذا كان الإِنسان يكره لحم الإِنسان؛ فضلًا عن كونه أخًا، وفضلًا عن كونه ميتًا، فوجب عليه أن يكره الغيبة بمثل هذه الكراهة أو أشد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (أَتُدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ) قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كان في أخي ما أقول؟ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بهتّه" . وعن عائشة -رضي الله عنها- قَالَتْ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا -تَعْنِي قَصِيرَةً-، فَقَالَ: (لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ) قَالَتْ: وَحَكَيْتُ لَهُ إِنْسَانًا، فَقَالَ: (مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ إِنْسَانًا وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

(وَاتَّقُوا اللَّهَ): أي: خافوا الله واحذروا عقابه، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.

وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ، كَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ: (ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ العَشِيرَةِ) (رواه البخاري)، وكقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ -رضي الله عنها- وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو الْجَهْمِ: (أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ) (رواه مسلم)، وَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.

وعن أبي برزة الأسلمي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).  

وعَنْ أنَس بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

وعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَارْتَفَعَتْ رِيحُ جِيفَةٍ مُنْتِنَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ؟ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ) (رواه أحمد بسندٍ حسنٍ).

(وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) أَي: فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، فراقبواه فِي ذَلِكَ وَاخْشَوْا مِنْهُ، إِنه -تعالى- كثير التوبة، عظيم الرحمة، لمَن اتقى اللهَ وتاب وأناب، وفيه حثٌ على التوبة، وترغيبٌ في السعي إلى الندم والاعتراف بالخطأ؛ لئلا يقنط الإِنسان من رحمة الله.

قَالَ السادة الْعُلَمَاءِ: طَرِيقُ الْمُغْتَابِ لِلنَّاسِ فِي تَوْبَتِهِ أَنْ يقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يَعُودَ، وَأَنْ يَتَحَلَّلَ مِنَ الَّذِي اغْتَابَهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَحَّلَلَهُ، فَإِنَّهُ إِذَا أَعْلَمَهُ بِذَلِكَ رُبَّمَا تَأَذَّى أَشَدَّ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ بِمَا كَانَ مِنْهُ، فَطَرِيقُهُ إِذًا أَنْ يُثْنِيَ عَلَيْهِ بِمَا فِيهِ فِي الْمَجَالِسِ الَّتِي كَانَ يَذُمُّهُ فِيهَا، وَأَنْ يَرُدَّ عَنْهُ الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِنْ مُنَافِقٍ، أُرَاهُ قَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا يَحْمِي لَحْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَمَنْ رَمَى مُسْلِمًا بِشَيْءٍ يُرِيدُ شَيْنَهُ بِهِ، حَبَسَهُ اللَّهُ عَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنَ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ، وَمَا مِنَ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْضِعٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ، إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ نُصْرَتَهُ) (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

وصلى الله على نبينا محمدٍ، والحمد لله رب العالمين.