الفساد (99) أين دور الزراعة في الاقتصاد المصري؟ (1)

  • 203

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد عرفت مصر الزراعة وبرعت فيها من قديم الزمان، حيث أقام المصريون القدماء حضارة عريقة على ضفاف النيل، حضارة ازدهرت فيها الزراعة ازدهارًا كبيرًا، فانتج المصريون كل ما يحتاجون إليه من المحاصيل الزراعية، والحبوب المتنوعة، والتي كانت غالبًا تكفيهم وتفيض، وإن لم يسلم تاريخ مصر من نوبات من المجاعة على فتراتٍ متباعدةٍ إذا فقد المصريون فيضان النيل في بعض السنين.

وقد اخترع المصريون القدماء العديد من أدوات وآلات الزراعة والتي منها ما هو معروف ومستخدم حتى الآن، وقد سجَّلت جدران المعابد والمقابر رسومات كثيرة تحكي تفاصيل ذلك.

الزراعة في مصر القديمة:

(ظل وادي النيل ذو التربة السوداء منذ العصر الحجري الحديث حتى الآن أرض فلاحين أكفاء؛ إذ كان سواد السكان يشتغلون بفلاحة الأرض منذ القِدَم. وكَرَّس الفلاح نفسه للعمل في الحقول الواسعة، وفي حديقته الخاصة، ونظَّمت الحكومة الري وأشرفت على موارد الطعام (مخازن الحبوب) (راجع: (معجم الحضارة المصرية القديمة) ترجمة أمين سلامة - ط. مكتبة الأسرة - ط. الثانية 1996م: ص 182).

كان الفلاح يعمل إما مع أسرته أو ضمن أفراد فرقة، ويعتمد على كل ما يمكنه الحصول عليه من الحقول الصغيرة، وتساعده الأبقار في حرث الأرض والأغنام عند البذر، والحمير عند الحصاد. كانت مصر تعيش من محاصيل أرضها، وتصدِّر فائض المنتجات الزراعية إلى البلاد الأجنبية، حيث كانت مخزنًا للحبوب ومنتجة للتيل الجميل، وفيها زراعة الخضروات والفاكهة.

وقد أفاد قدماء المصريين من كل شبر في الحدائق، كما ازدهرت زراعة النباتات، ومنها: نباتات الفصيلة القرعية، ومن النباتات الخاصة: الفول، والعدس، والذرة العويجة، والحلبة، والخيار، والبصل، والخص، كما كثرت فواكه الصحراء، ومنها: التين والعنب، والنبق، والجميز، والبلح، وكذلك الرمان في الدولة الحديثة، كما زرعت المحاصيل الزيتية، مثل: السمسم، والخروع.

وبدأت زراعة الزيتون منذ الأسرة الثامنة عشرة، ولكنه كان نادرًا، وكان بمصر حدائق للزهور حيث نرى صورًا ملونة لها على أرضيات القصور، وكانت هناك النباتات البرية: كالكرفس، والريزومات؛ مما يستعمل في الطهي أو في العطور، ونباتات الزينة، مثل: اللبلاب والسوسن، ونباتات الصباغة والنباتات الطبية، مثل: شجرة التربنتين (للاستزادة: راجع المصدر السابق، ص 182 - 183).

الشادوف:

(أول أداة ري منظم في تاريخ الحضارات ابتكرها المصري القديم حيث تم دراسة بعض أقدم مناظر ملونة له في مقبرتي: (نفر- حتب) و(ميري رع الثاني) إبان حكم الملك (إخناتون) بتل العمارنة بالمنيا. وهي أداة تتكون من عصا خشبية عبارة عن جذع شجرة يتميز بقوة الاحتمال، وتعلَّق تلك الساق الخشبية على عامود سميك أعلى بقليل من مستوى قامة الإنسان. وقد يكون هذا العامود عبارة عن قطعة خشبية مثبتة في الأرض، أو يكون مصنعًا من الطين الني، مثل ما نرى الآن في مزارعنا الغَنَّاء.

وفي آخر هذه الساق يوضع ثقل من الحجر أو الطين الجاف لتعمل كرافعة للماء، يتدلى من الناحية الأمامية حبل سميك قوي في آخره دلو مصنوع من القش أو الجلد. وعندما يجذب الفلاح ذلك الحبل السميك إلى أسفل -سواء أكان الترعة أو نهر النيل الذي يبنى الشادوف على شطه- ليملأه بالمياه ثم يرفعه إلى أعلى، ورغم ثقل وزن الدلو المحمل بالمياه؛ إلا ن الثقل الموجود في الناحية الأخرى من الساق الخشبي يساعده على جذب الدلو بدون مجهودٍ كبيرٍ. يمسك الفلاح بالدلو ويقلبه فتنسكب المياه في جدول صغير شُقَّ خصيصًا لكي تجري فيه المياه إلى الأرض المراد ريها.

استمر استخدام الشادوف في الأسرة التاسعة عشرة، وهذا مثبَّت في منظر ملون على حائط في مقبرة المدعو (إيبوي)، وهي ترجع إلى عصر الملك (رمسيس الثاني)، وتقع في وادي العمال بغرب الأقصر.

ترنيمة الشادوف التي كان يغنيها ويشدو بها الفلاح اعتبرت مِن أقدم الأغنيات في تاريخ العالم التي كان يغنيها الفلاح في حقله) (انظر (كتاب: مصر القديمة) بسام الشماع - مكتبة الشروق الدولية - مصر الجديدة - ط. أولى 1431 هجريا – 2010 م: ص 168 – 169).

الاهتمام بالنباتات الأجنبية:

بجانب اللوتس والنباتات التي زرعها المصري القديم كان هناك اهتمامه بالتعرف على الأنواع الأجنبية أيضًا، والتي شاهدها خلال رحلاته سواء السلمية والتجارية أو حتى الحربية)، و(مما يؤكِّد اهتمامه بعلم النباتات أنه وثقها ورسمها ونقشها على جدران غرف معابده.

ومن أجمل الأمثلة على ذلك: غرفة الملك (جحوتي مس) الثالث -معروف باسم (تحتمس الثالث)- بالكرنك على الرغم أنه قد أنجز 17 حملة عسكرية)، (إلا أنه فاجأ الجميع بتوثيق هذه النباتات التي رآها في سوريا وفلسطين إبان العام 25 في حكمه لمصر. ومنها أيضا: نباتات من مصر، تم نقش هذه المجموعة في منظر نادر بديع على جدران حجرة في صالة الاحتفالات، وهي التي يطلق عليها الآن: (حديقة النباتات).

مناظر النباتات والفواكه والزهور هنا منقوشة بدقة وبخبرة وحنكة، التفاصيل ظاهرة للأعين، تسهل تباين الأنواع المختلفة، وتوضح أنواعها وعائلتها. هذه الحجرة هي احتفالية لكل مهتم بعلم النباتات والزهور، ودرس عميق وسهل لكلِّ مَن يريد التعرف على هذا العلم الذي ابتكره المصري القديم، وتعرف على أهميته في الحياة اليومية، وتيقن مدى أهميته).

ومن النباتات التي أحضرها (جحوتي مس) الثالث وعرضها على المصريين لأول مرة (الزنبق واللوز والرمان والمخيط، وآس معروف والدباسيات وقرين، بل إن هناك بعض النباتات التي نقشت قد انقرضت من مصر الآن مثل الإنقليس؛ مما يجعل هذه المناظر الجدارية وثيقة مهمة وتأريخا للطبيعة لا غنى عنها) (راجع: موسوعة البسام: تاريخ وآثار، تأليف بسام الشماع، ط. فرست بوك للنشر والتوزيع: ص 591- 592 بتصرفٍ يسيرٍ). 

الشجر:

اهتم المصري القديم بالشجر وزراعته فتعدَّدت الأنواع، وصور الاستفادة منها، بل استورد المصري القديم العديد من الأشجار من كل البلاد المحيطة والبعيدة أيضًا.

من أشهر الأشجار المصرية القديمة شجرة الجميز، فـ(بالإضافة إلى استفادته من هذه الشجرة والأشياء العملية التي وفرتها له، مثل: العلاج والأدوية، فقد ربط بينها وبين الديانة، فنجدها هي التي تعطي ثمارها لتأمين معيش البشر)، (النص القديم يذكر أكثر من نوع شجر واحد، وهو مكتوب على بردية تسمَّى: (بردية تورين)، ومنها: شجرة الرمان، وشجرة التين التي أحضرت من أرض سوريا، و(زرع المصري القديم العنب بكثرة وشرب عصيره، وجففه ليصبح زبيبًا ليأكله، وزين بمناظره سقف مقبرته)، وقد (جلبت حتشبسوت أشجار الحناء من بونت الإفريقية، وجلب ملوك مصر على طول تاريخها أشجار وأخشاب الأبنوس عالية القيمة)، كما (زرع المصري أشجارًا، مثل: النبق والسرو والبرساء، والأثل، والسنط والصفصاف وغيرها)، (ومن أشهر الأخشاب التي تاجر فيها المدعو (خو - إن - أنبو) المشهور بالفلاح الفصيح هو خشب (عانوت) الذي كان يجلب من واحة الفرافرة).

وقد (افتخر الأمير (أوني) حاكم الوجه القبلي (2400 قبل الميلاد تقريبًا) بأن الملك كان قد أرسله إلى بلاد (واوات) (النوبة) من أجل بناء 3 سفن شحن و4 سفن للنقل من خشب السنط)، (أما عن جائزة الإبداع الخشبي فهي ثلاثة تذهب وبدون منازع أو منافس للمركب التي تم الكشف عنها في عام 1954 م جنوب هرم (خوفو)، وهي أكبر وأضخم مركب خشبي في التاريخ القديم مكتشفة حتى الآن) (راجع المصدر السابق، ص 381 – 383 بتصرفٍ).

الفول والشعير:

زرع المصري القديم الفول كمحصول شتوي، حيث كان يؤكل بطرقٍ عديدةٍ، وكان مصدرًا لأطباق شهية، مثل: النابت والمتمس والبيصرو، بل يرى البعض أن المصريين القدماء عرفوا الفلافل وأكلوها، وكان للفول استخدامات طبية وعلاجية، فكان قاسمًا مشتركًا في العديد من الوصفات واللبخات والمراهم، كما كان ضمادًا مسكِّنًا للركبة المتألمة، وعجينة لسرعة التئام العظام المكسورة (راجع المصدر السابق، ص 473 بتصرفٍ يسيرٍ).

وقد عرف المصري القديم الشعير منذ ما قبل الأسرات والتاريخ المكتوب، واستخدمه في طعامه، وفي بعض الاستعمالات الطبية حيث صنع منه الخبز والكعك، وكان قاسمًا مشتركًا في العديد من العقاقير الطبية والوصفات العلاجية، مثل: علاج البلغم والقروح، والبواسير والحروق، وغيرها، وفي بعض الأحيان كانت ضفائر الشعير تستخدم كأداة للزينة وتجميل المرأة المصرية القديمة (راجع المصدر السابق، ص 383 - 384 بتصرفٍ يسيرٍ).

منسوب النيل:

(درس المصري القديم منسوب نهر النيل خلال الفترات المتعاقبة والمواسم المتتالية في العام الواحد، وذلك لاختلافه عند وصول الفيضان بالمياه الغزيرة والطمي أو عدم حضوره ليؤدي إلى الجفاف والقحط؛ ولأن الحياة الزراعية في مصر القديمة هي التي كانت سائدة كان لزامًا على المصري ابتكار مقياس للنيل (نيلوميتر)، وبالفعل انتشرت المقاييس في كلِّ المعابد، وعلى ضفاف النيل والمصارف المائية التي شقها المصري القديم)، (ابتكر المصري القديم منظومة متكاملة من المتخصصين في شؤون المياه تحصي الارتفاعات للمنسوب والترع والأنهار، مع مهندسين يشيدون المقاييس. مقياس جزيرة ألفنتين بأسوان -مثلًا- كان عبارة عن بئر ذي دهليز به درج  يهبط فيه المختص ملاحظًا الميل الذي يؤدي إلى عتبة بها بوابة ذات عددٍ قليلٍ من الدرج تؤدي إلى نهر النيل وتلامسه، على جوانب ممراته منقورات تحصي الارتفاعات للمنسوب) (راجع: كتاب مصر القديمة، بسام الشماع، ص 258 - 259 بتصرفٍ).

الواحات:

يوجد عددٌ كبيرٌ مِن الواحات في صحراء مصر، وقد (لعبت هذه الواحات -وخصوصا الموجودة في الصحراء الغربية- دورًا مهمًا في تاريخ مصر الطبيعي والإنساني)، (أهم وأكبر الواحات هي: البحرية والداخلة والخارجة، وسيوة وباريس، وقد لعبت دورًا حيويًّا في التجارة ودروبها، وإنتاج البلح والنخيل وغيرها من الثمار والمنتجات المفيدة، وواحة البحرية المتميزة بعاصمتها (باويطي) لعبت -كما هو الحال في الواحات عامة- دورًا في الدفاع عن حدود وأراضي مصر الغربية) (راجع المصدر السابق، ص 297 - 300 بتصرفٍ).

لوحة المجاعة:

(مناظر حوادث المجاعة والقحط والفقر نتيجة عدم وصول مياه الفيضان بالمياه والطمي الكافيين للري موجودة في الدولة القديمة -على جدران الطريق المسمى بالطريق الصاعد لهرم (ونيس)- وغيرها من الأسرات. لم يكن المصري القديم يخجل من تأريخ هذه الوقائع البائسة، كان يلقي باللوم على الملك وعلاقاته بالأرباب. لوحة المجاعة هي أشهر تلك الحوادث، تعتلي تلا في جزيرة سهيل بأسوان بالشلال الأول، منحوت على هذه القطعة الحجرية الجرانيتية الصلدة نصف مستطيل نحتًا خفيفًا يرجع إلى زمن حكم البطالمة الإغريق، ولكنه يحكي قصة المجاعة التي أصابت البلاد في أيام الملك دجيسير صاحب هرم سقارة المدرج) (راجع المصدر السابق، ص 235 – 237 بتصرفٍ).  

الزراعة في عهد محمد علي:

(من القواعد الأساسية في نهضة الأمم: أن إنماء ثروة البلاد والمحافظة على كيانها المالي من أكبر دعائم الاستقلال؛ لأن العمران مادة التقدم والثروة الأهلية هي قوام الاستقلال المالي. ولا يتحقق الاستقلال السياسي ما لم يدعمه الاستقلال المالي والاقتصادي. تلك الحقائق التي أجمعت الآراء على صحتها وجوب العمل بها، كان محمد علي أول مَن قَدَّرها، فقد اتجهت أنظاره منذ أوائل حكمه إلى إصلاح حالة البلاد الاقتصادية، وإنشاء أعمال العمران فيها لتنمو ثروتها القومية، ولم تفتر عزيمته عن متابعة جهوده من هذه الناحية حتى خلف أعمالًا ومنشآت يزدان بها تاريخه) (راجع: عصر محمد علي، عبد الرحمن الرافعي - الناشر مكتبة النهضة المصرية القاهرة - ط الثالثة 1370 هـ - 1951م، ص 572).

ومن الأعمال الجليلة لمحمد علي في مجال الزراعة:

- شق ترعة المحمودية: كانت ترعة الإسكندرية القديمة قد طمرتها الأتربة والرمال فشرع محمد علي في حفرها، وعنى بها عناية كبيرة، فكان يتعهدها بنفسه؛ بغرض إحياء الأراضي الزراعية في مديرية البحيرة، ولاتخاذها وسيلة مواصلات نيلية بين الإسكندرية وداخل البلاد.

وقد عهد بتصميم حفرها إلى المهندس الفرنسي (مسيو كوست)، ولما تم حفرها افتتحها في 24 يناير 1820م، وقد تكلفت الترعة مجهودات كبيرة، وتسببت في متاعب جسيمة وضحايا، احتملها المصريون صابرين حيث مات الآلاف من الفلاحين الذين اشتغلوا في حفرها؛ بسبب قلة الزاد، والمؤونة، والإعنات في العمل، وسوء المعاملة من الجنود.

وقد أتت هذه الترعة بثمراتٍ عظيمةٍ من جهة المواصلات، ونقل الحاصلات وزيادة العمران في إقليم البحيرة وإحياء أراضيها، وكذلك استفادت منها الإسكندرية في حركة التجارة وزيادة العمران، كما ساعدت على الإكثار من الزرع وغرس الأشجار والحدائق، والبساتين على ضفافها، وفي ضواحي المدينة.

وقد شقَّ محمد علي العديد مِن الترع الأخرى في مختلف المديريات، وكان يعتني بتطهيرها وصيانتها لتوفير مياه الري اللازمة للزراعة.

- إنشاء القناطر والجسور: حيث تم إنشاء قناطر كثيرة على الترع لضبط مياهها، ومِن أهمها: القنطرة الكبرى ذات العيون التسع على بحر مويس بالزقازيق، وقناطر المسلمية، وقناطر البريجات، وقناطر البوهية والمنصورية، وقناطر النعناعية، وغيرها كثير. وتم إنشاء الجسور على شاطئ النيل من جبل السلسلة إلى البحر الأبيض المتوسط لمنع طغيان المياه على الضفتين، وتم إنشاء جسور أخرى فرعية، منها: جسر الرقة، وجسر الطهنشاوي، وجسر البرانقة، وجسر مشطا، وغيرها كثير.

- إصلاح سد (أبو قير) القديم: كان هذا السد متهدمًا فقام محمد علي بإصلاحه، وسد فتحة بحيرة (أبو قير) بجسر من الأحجار يقيها تسرب مياه البحر إليها، ويقي ترعة المحمودية طغيان المياه الملح عليها.

ومن ذلك الحين أخذت بحيرة (أبو قير) تجف تدريجيًّا حتى صارت أراضي زراعية، كان العمل في هذا السد شاقًّا اقتضى عدة سنين لعمق المياه في داخل خليج (أبو قير)؛ إذ كان عمقها خمسة أمتار في ناحية الجسر، وطول الجسر 1243 مترًا. وقد ذكر الجبرتي نبأ هذا الإصلاح في أحداث سنة 1231 هـ - 1816م، وعده من محاسن الأعمال.    

- إنشاء القناطر الخيرية: كانت أراضي الوجه البحري تروى بطريق الحياض كري الوجه القبلي، فلا يزرع فيها إلا الشتوي، ولا يزرع الصيفي إلا على شواطئ النيل أو الترع القليلة المشتقة منه، وقد أخذ محمد علي في تغيير هذا النظام تدريجيًّا، من خلال شق الترع وتطهيرها، وإقامة الجسور علي شاطئ النيل؛ لضمان توفير مياه الري في معظم العام، وصارت الترع تروي الأراضي في غير أوقات الفيضان جهد المستطاع، ولا سيما بعد إقامة القناطر عليها.

وقد توج محمد علي أعمال الري التي قام بها بإنشاء القناطر الخيرية؛ إذ إنها قوام نظام الري الصيفي في الوجه البحري، وهي وإن كانت أواخر أعماله في الري؛ إلا أنها أعظمها نفعًا وأبقاها.

وقد فكَّر فيها محمد علي بعد ما شاهد بنفسه فوائد القناطر التي أنشأها على الترع، ورأى أن كميات عظيمة من مياه الفيضان تضيع هدرًا في البحر ثم تفتقر الأراضي إلى مياه الري في خلال الباقي من العام ولا تجد كفايتها منها، فعزم على ضبط مياه النيل للانتفاع بها زمن التحاريق، وفي إحياء الزراعة الصيفية في الدلتا من خلال إنشاء قناطر كبرى في نقطة انفراج فرعي النيل.

ويتألف المشروع من قنطرتين كبيرتين على فرعي النيل يوصل بينهما برصيف كبير، مع شق ترع ثلاث كبرى تتفرع عن النيل فيما وراء القناطر لتغذية الدلتا، وهي الرياحات الثلاثة المعروفة برياح المنوفية ورياح البحيرة ورياح الشرقية الذي عرف بالرياح التوفيقي؛ لأنه تم في عهد الخديوي توفيق باشا وضع حجر الأساس للمشروع في 1263 هـ (1847م).

وقد اعترى العمل الفتور في أواخر أيام حكم محمد علي ثم توقف بعد وفاته؛ بحجة أن الخزانة لا تسمح بنفقات المشروع الطائلة، ثم تم بناء القناطر وإنشاء رياح المنوفية في عهد سعيد باشا، وقد وصف المشروع وقتها بكونه أكبر أعمال الري في العالم كله؛ لأن فن بناء القناطر على الأنهار لم يكن بلغ من التقدم ما بلغه اليوم؛ لذا كانت إقامة هذه القناطر بوضعها وضخامتها وقتها يعد إقدامًا فيه شيء من المجازفة.

- توسيع نطاق الزراعة: بدأ محمد علي في توسيع نطاق الزراعة بابتكار أنواع جديدة زادت كثيرًا في ثروة مصر الزراعية، ومن ذلك: 

- الاعتناء بغرس أشجار التوت لتربية دود القز (الحرير)، حيث خصص ثلاثة آلاف فدان ليغرس فيها هذه الأشجار في أراضي وادي الطميلات بالشرقية، وخصص لخدمتها ألفين من الفلاحين، كما جلب من الشام مزارعين وصناع من المتخصصين للقيام على تربية دود الحرير، ثم عمم غرس أشجار التوت في العديد من المديريات بعد ذلك.

وقد بلغ عدد أشجار التوت في مصر وقتها ثلاثة ملايين شجرة، بمعدل 300 شجرة في كل فدان، وبلغ محصول الحرير عام 1832 - 1833 م 12 ألف أقة، وللأسف: رغم نجاح التجربة نجاحًا عظيمًا فقد انتاب دود الحرير مرض في أوروبا ومصر فقل معه الإنتاج وأفسد تقاوي الدود، وأهملت تربيته في أواخر عصر محمد علي.

- غرس محمد علي عددًا وفيرًا من الأشجار على اختلاف أنواعها لاستخدام أخشابها في بناء السفن وأعمال البناء والعمران، ومنها: إقامة السواقي وصنع عربات المدافع والسفن الحربية.

-  كان القطن مألوف زرعه في مصر قبل عام 1821م، ولكنه كان من النوع الرديء الذي لا يصلح للتنجيد، وكان هناك نوع نادر يفوق القطن القديم في طول تيلته ونعومته يزرع في بعض الحدائق، لكن محصوله كان ضئيلًا، فقام محمد علي بتعميم زراعة هذا النوع الجيد من القطن، واشتراه من الفلاحين بأسعار مرتفعة لتشجيعهم على زراعته، فأقبل الفلاحون على زراعته، في ظل توافر مياه الري لزراعته، فلم تمضِ عدة أعوام حتى انتشر هذا النوع الجيد من القطن، كما أدخل محمد علي نوعًا جديدًا من القطن، وهو القطن الأمريكي (سي ايلاند)، فصار القطن المصري ينافس قطن أمريكا والبنغال، وزاد إقبال مصانع النسيج عليه في إنجلترا وفرنسا، فزاد محصوله عامًا بعد عام ليتحول إلى أساس ثروة مصر الزراعية، وقد احتكرت الحكومة تجارة القطن وبيعه.

 - كانت زراعة الزيتون نادرة في مصر، ففكر محمد علي في الاستكثار من غرس أشجار الزيتون في الوجهين: البحري والقبلي؛ لاستخراج الزيت من ثمره، واتخاذه غذاءً للجنود؛ خاصة البحارة.

- وكانت زراعة النيلة معروفة في مصر، ولزيادة نموها جلب محمد علي في عام 1826 م بذور النيلة الهندية، واستحضر بعض الهنود المتخصصين في زراعتها، فازدهرت زراعتها، وقد احتكرت الحكومة تجارتها وبيعها لطالبيها وأنشأت لها فابريقات خاصة.

- وقد أحضرت الحكومة بعض الأرمن من أزمير لزراعة الخشخاش (الأفيون) في مصر، حيث يستخرج من بذور الأفيون زيت للوقود، وقد احتكرت الحكومة تجارته.

 - وقد حاولت الحكومة كذلك زراعة البن اليمني في مصر عدة مرات، ولكنها أخفقت.

- كما توسع محمد علي في زراعة القنب (التيل) الذي نجحت زراعته في مصر، واستخدم ثمره في صنع التيل والحبال (للاستزادة راجع المصدر السابق، ص 572 - 586).