الدعاء (2) السخاء في الدعاء

  • 27

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد شرع الله لعباده الدعاء، ووعدهم بالإجابة متى أخلصوا له الدعاء، وافتقروا إليه، فقال: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر: 60)، وحثَّنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- على الدعاء لغيرنا بظهر الغيب، فعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: (دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ) (رواه مسلم)، أي: بِمِثْلِ ما دَعوْتَ لأَخيكَ، وهذا دُعاءٌ مِنَ المَلَكِ لِلدَّاعي، ولا يَكونُ إِلَّا عن أَمْرِ اللهِ فيَنْبَغي لِلعَبْدِ أنْ يُكْثِرَ مِن دُعائِه لِأخيهِ؛ فَهو عَمَلٌ صالِحٌ يُؤجَرُ عليه.

وفي الحديث: الحثُّ على إِحسانِ المُؤمنينَ بعضهم إلى بعض.

وفيه أيضًا: فضل الدعاء للمسلم بظهر الغيب، وأنه ينبغي على المسلم أن يخلص في دعائه لأخيه، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه حتى يستجاب دعاؤه، ويحصل له مثل ما يحصل لأخيه.

قال النووي -رحمه الله- في شرح مسلم: "وَكَانَ بَعْض السَّلَف إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُو لِنَفْسِهِ يَدْعُو لِأَخِيهِ الْمُسْلِم بِتِلْكَ الدَّعْوَة؛ لِأَنَّهَا تُسْتَجَاب، وَيَحْصُل لَهُ مِثْلُهَا".

وعن أمِّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: : لَمَّا رَأَيْتُ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طِيبَ نَفْسٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَائِشَةَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنَبِهَا وَمَا تَأَخَّرَ، مَا أَسَرَّتْ وَمَا أَعْلَنَتْ)، فَضَحِكَتْ عَائِشَةُ حَتَّى سَقَطَ رَأْسُهَا فِي حِجْرِهَا مِنَ الضَّحِكِ، قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أَيَسُرُّكِ دُعَائِي؟)، فَقَالَتْ: وَمَا لِي لَا يَسُرُّنِي دُعَاؤُكَ؟! فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَاللَّهِ إِنَّهَا لَدُعَائِي لِأُمَّتِي فِي كُلِّ صَلَاةٍ) (رواه ابن حبان في صحيحه،  وحسنه الألباني).

ونحن في شهر رمضان المبارك، أذكِّر نفسي وإياكم ألا نستأثر بالدعاء، بل نشرك إخواننا وأحبابنا من المؤمنين والمسلمين الأحياء والأموات؛ فهذا نبي الله إبراهيم -عليه السلام- لا يقْصِر دعاءه على نفسه، بل كان يدعو لوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، قال -تعالى- حاكيًا دعاءه: (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (إبراهيم:41).

وهذا نوح -عليه السلام- يقول في دعائه: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا) (نوح:28).

وهذا حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- يأمره ربه -عز وجل- بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات، قال -تعالى-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19).

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا، وَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي فِي الآخِرَةِ) (متفق عليه)، فلم يستأثر بها الحبيب -صلى الله عليه وسلم- لنفسه، بل جعلها لأمته في يوم تشخص فيه الأبصار، وتشيب فيه الولدان، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع فيه كل ذات حمل حملها. اللهم سلِّم سلِّم.

وفي غزوة بدر لما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عدد أصحابه ثلاثمائة وخمسة عشر رجلًا، والكفار ثلاثة أضعافهم، رأى قلة العدد والعدَّة عند المؤمنين، وكثرة ذلك عند الكافرين، فقال داعيًا لإخوانه وأصحابه: (اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِيَاعٌ فَأَشْبِعْهُمْ)، فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَانْقَلَبُوا حِينَ انْقَلَبُوا، وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ وَاكْتَسَوْا وَشَبِعُوا. (رواه أبو داود، وحسنه الألباني).

ثم لا ننسى دور الملائكة في الدعاء والاستغفار للمؤمنين والتائبين، والمتبعين سبيل الله -عز وجل-، قال -تعالى- حاكيًا دعاءهم: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) (غافر:7).

 أما المؤمنون فيدعون لأنفسهم ولإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، قال -تعالى- حاكيًا دعاءهم: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (الحشر: 10).

 قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: "وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين، السابقين من الصحابة، ومَن قبلهم ومَن بعدهم، وهذا من فضائل الإيمان: أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض، ويدعو بعضهم لبعض، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض، وأن يحب بعضهم بعضًا؛ ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب، الشامل لقليل الغل وكثيره الذي إذا انتفى ثبت ضده، وهو المحبة بين المؤمنين، والموالاة والنصح، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين" (تفسير السعدي).

والأنبياء والملائكة وصالحو المؤمنين هم القدوة والأسوة الحسنة لنا، فينبغي أن نقتدي بهم، ونقتفي أثرهم، ونترسم خطاهم، قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (الممتحنة:6)؛ فإياك أخي الحبيب أن تخص نفسك بالدعاء دون المؤمنين، وتبخل به عليهم، حتى يقال لك: "ولك بمثل"، كما جاء في الحديث المتقدم.

دخلَ أعرابيٌّ المسجدَ والنَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جالسٌ، فصلَّى فلمَّا فرغَ قال: "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلاَ تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا"، أي: يَطلُبُ في دعائِه الرَّحمةَ لنَفسِه وللنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، ويَمنَعُها عن باقي المسلِمين، فالتفتَ إليهِ النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ: (لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا) (رواه البخاري)، أي: منَعتَ وضيَّقتَ أمرًا جعَل اللهُ فيه السَّعةَ؛ ألَا وهو: رحمةُ اللهِ -عزَّ وجلَّ- الَّتي تشمَلُ كلَّ عبادِه الموحِّدين.

كما يشرع طلب الدعاء والاستغفار من الصالحين كما جاء في حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مَعَ أَمْدَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ، مِنْ مُرَادٍ، ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَبَرَأَ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ) (رواه مسلم).

والشاهد هنا: أن المفضول قد توجد فيه مزية لا توجد في الفاضل، وكذلك لا يمنع مِن أن يدعو المفضول للفاضل، أو أن يطلب الفاضل من المفضول أن يدعو له.

قال الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في تعليقه على هذا الحديث: "... فدلَّ ذلك على أن طلب الاستغفار والدعاء من الرجل الصالح لا بأس به؛ لعل الله يجيب دعوته، فإذا قلتَ له: يا أخي ادع الله لي بالمغفرة أو ادع الله لي أن يصلح قلبي، أو يثبتني على الإيمان أو أن يمنحني العلم النافع، أو أن يرزقني زوجةً صالحة فلا بأس في ذلك".

فاللهم ألهمنا الدعاء، وتقبله منا، ووفقنا لطاعتك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وصلى الله على النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.