تجديد الإيمان بآيات الرحمن من سورة الحجرات (8)

  • 32

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى): لقد جاء هذا النداء لجميع البشر بَعْدَ النَّهْيِ عَنِ الْغَيْبَةِ، وَاحْتِقَارِ بَعْضِ النَّاسِ بَعْضًا، مُنَبِّهًا عَلَى تَسَاوِيهِمْ فِي الْبَشَرِيَّةِ، والمعنى: يا أيها الناس نحن بقدرتنا خلقناكم من أصلٍ واحدٍ، وأوجدناكم من أب وأم، فلا تفاخر بالآباء والأجداد، ولا اعتداد بالحسب والنسب، كلكم لآدم وآدمُ من تراب، فَجَمِيعُ النَّاسِ فِي الشَّرَفِ بِالنِّسْبَةِ الطِّينِيَّةِ، إِلَى آدم وحواء -عليهما السلام- سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَهِيَ طَاعَةُ الله -تعالى-، وَمُتَابَعَةُ رَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) أي: وجعلناكم شعوبًا شتى، وقبائل متعددة، ليحصل بينكم التعارف والتآلف، لا التناحر والتخالف. قال مجاهد: "ليعرف الإِنسان نسبه فيُقاَل: فلان بن فلان من قبيلة كذا". وأصل تعارفوا: تتعارفوا، حذفت إحدى التاءين تخفيفًا.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ، فَإِنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ مَحَبَّةٌ فِي الأَهْلِ، مَثْرَاةٌ فِي المَالِ، مَنْسَأَةٌ فِي الأَثَرِ) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

والنسبُ وِإن كان يُعتبر عرفًا وشرعًا، حتى لا تُزوج الشريفة بمَن دونها؛ إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدرًا منه وأعز، وهو: الإيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس.

(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) أي: إنما يتفاضل الناس بالتقوى، لا بالأحساب والأنساب، فمَن أراد شرفًا في الدنيا ومنزلةٌ في الآخرة؛ فليتقِ الله، وفي الأثر: "من سرَّه أن يكون أكرم الناس فليتَّق الله"، وفي الحديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَتَعَاظُمَهَا بِآبَائِهَا، فَالنَّاسُ رَجُلَانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَخَلَقَ اللَّهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: (أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ)، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا ما نَسْأَلُكَ، قَالَ: (فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللهِ)، قَالُوا: َلَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: (فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي)؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (فَخِيَارُكُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا).

وروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُم).

وعن حُذَيْفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني). والْجِعْلَانِ: -بكسر الجيم وسكون العين-: جمع جعل، وهي دويبة سوداء تدفع بأنفها النتن، أي: العذرة، مثل الخنفساء.

(إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) أي: عليمٌ بالعباد، مطلع على ظواهرهم وبواطنهم، يعلم التقي والشقي، والصالح والطالح، (هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32).

وصلى الله على نبينا محمدٍ، والحمد لله رب العالمين.