الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (31)

  • 91

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛   

فقال الله -تعالى-: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ) (البقرة:136-138).

بعد أن بيَّن الله -تعالى- حقيقة الإيمان الواجب بجميع الرسل والأنبياء، وجميع الكتب المنزلة، وأنها جميعًا من عند الله لا تختلف في الملة والعقيدة والإيمان، وإن اختلفت الشرائع التي خُتمت بشريعة الإسلام التي نسخت كل ما يخالفها؛ بيَّن -عز وجل- وجوب الإيمان كإيمان الصحابة مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ شهد لهم بالهداية، فقال: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا)، فالهداية في الإيمان مثل إيمانهم، والتصديق مثل تصديقهم، وأما مَن أعرض عن طريقتهم فهو مَن تولى عن الحق وضل عنه، وسيظل مُشَاققًا؛ أي: يكون في شق، والحق في شق آخر، يظل مفارقًا له، معاندًا محاربًا له، كما أنهم في أنفسهم في شقاق مع أنفسهم ومع بعضهم البعض، فلا يزالون مختلفين مقتتلين، (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة:253)، فالله يكفي المؤمنين كيدهم وشقاقهم ومكرهم، ويحفظ نبيه -صلى الله عليه وسلم- وأولياءه المؤمنين.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قوله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا) أي: الكفار مِن أهل الكتاب وغيرهم. (بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ): أيها المؤمنون، من الإيمان بجميع كتب الله ورسله، ولم يفرِّقوا بين أحدٍ منهم. (فَقَدِ اهْتَدَوا): فقد أصابوا الحق، وأُرشدوا إليه. (وَإِنْ تَوَلَّوْا) أي: عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم، (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ) أي: فسينصرك عليهم ويُظْفِرك بهم، (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

روى ابن أبي حاتم عن نافع بن أبي نعيم، قال: أرسل إليَّ بعض الخلفاء مصحف عثمان بن عفان ليصلحه. قال زياد بن يونس: فقلت له: إن الناس يقولون: إن مصحفه كان في حجره حين قُتل، فوقع الدم على (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) فقال نافع: بصرت عيني بالدم على هذه الآية وقد قَدُم (أي: صار قديمًا).

وقوله: (صِبْغَةَ اللَّهِ): قال الضحاك عن ابن عباس: دين الله. وكذا رُوي عن مجاهد، وأبي العالية، وعكرمة، وإبراهيم، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعبد الله بن كثير، وعطية العوفي، والربيع بن أنس، والسدي نحو ذلك.

وانتصاب (صِبْغَةَ)؛ إما على الإغراء كقوله: (فِطْرةَ اللهِ) أي: الزموا ذلك عليكموه. وقال بعضهم: بدل من قوله: (مِلَّةَ إِبْرَاهِيْمَ). وقال سيبويه: هو مصدر مؤكد انتصب عن قوله: (آمَنَّا بِاللَّهِ)؛ كقوله: (وَعْدَ اللهِ).

وقد ورد في حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن نبي الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن بني إسرائيل قالوا: يا موسى، هل يصبغ ربك؟ فقال: اتقوا الله. فناداه ربه: يا موسى، سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل: نعم، أنا أصبغ الألوان: الأحمر والأبيض والأسود، والألوان كلها من صبغي. وأنزل الله على نبيه -صلى الله عليه وسلم-: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)". وهو في رواية ابن أبي حاتم موقوف، وهو أشبه -إن صح إسناده-" (انتهى من تفسير ابن كثير).

قلتُ: وقول جماهير السلف في معنى الصبغة: أنه الدِّين، وهو الصواب بلا شك، كما يدل عليه السياق، وهو -عز وجل- مقلب القلوب، وهو -سبحانه وتعالى- يصرفها كيف يشاء -شقيها وسعيدها-، فليس الصبغ في الآية من الألوان، ولكن هو في أحوال القلوب، ولا يُنسَب إلى دين الله -عز وجل- إلا ما وافق الحق.

وقال الطبري -رحمه الله- في تفسير قوله -تعالى-: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا): "يعني -تعالى ذكره- بقوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ) فإن صدّق اليهودُ والنصارى بالله، ومَا أنـزل إليكم، وما أنـزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدَّقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم؛ فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذٍ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك؛ فدلَّ -تعالى ذكره- بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحدٍ عملًا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قبلها.

عن ابن عباس قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا) ونحو هذا، قال: أخبر الله -سبحانه- أنَّ الإيمان هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملًا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.

ثم قال -رحمه الله- في تأويل قوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ): يعنى -تعالى ذكره- بقوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا) وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى)، فأعرضوا فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرَّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدَّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ، فاعلموا أيها المؤمنون أنهم إنما هُمْ في عصيانٍ وفِرَاق، وحَربٍ لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم- ولكم.

وعن قتادة: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي: في فراق.

وعن الربيع: (فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) يعني فراق.

ابن زيد: (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ).

قال أبو جعفر: وأصل "الشقاق" عندنا -والله أعلم- مأخوذٌ من قول القائل: شَقَّ عليه هذا الأمر، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل: شاقَّ فلانٌ فلانًا، بمعنى: نال كلُّ واحد منهما مِن صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله -تعالى ذكره-: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) يعنى: فراق بينهما.

يعني -تعالى ذكره- بقوله: (فَسَيَكْفِيْكَهُمُ اللهُ) فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) من اليهود والنصارى؛ إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أُنـزل إليك، وما أُنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وسائر الأنبياء غيرهم، وفرَّقوا بين الله ورُسُله -إما بقتل السيف (أي: يكفيكهم بأن تقتلهم)، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو (السَّمِيع) لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضَّالة، (العَلِيم) بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء، ففعل الله بهم ذلك عاجلًا وأنجزَ وَعْده؛ فكفى نبيّه -صلى الله عليه وسلم- بتسليطه إيَّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلَّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار" (انتهى من تفسير ابن جرير).

وتضمنت هذه الآية الكريمة تصويب طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في الإيمان، وأن ما خالفها ليس من الهدى وإنما مِن الشقاق؛ ففيها دليل على وجوب اتباع طريقة الصحابة -رضي الله عنهم- في العقيدة والعمل والسلوك دون ما اخترعه الناس بعد ذلك؛ كعلم الكلام الذي اختُرع بعد القرون الثلاثة الخيرية، بل أكثر من ذلك، وما تكلَّم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بحرفٍ مِن علم الكلام؛ لا بعرض ولا بجوهر، ولا بتعريفات المتكلمين، ولا تكلَّم الصحابة -رضي الله عنهم- بذلك، ولا التابعون ولا تابعوهم، ولا الأئمة الأربعة، ولا أهل الحديث، ولا أصحاب السنن، ما حدث ذلك إلا بعد اختراع علم الكلام.

وكذا لم يكن من طريقة الصحابة -رضي الله عنهم-: التعصب المذهبي، أو الانتقاء بين الأقوال بالتشهي والاختيار وتتبع الرخص؛ ما كان أحد منهم يفعل ذلك، ولا فيمَن بعدهم مِن الأئمة، وإنما حدث ذلك بعد المائة الثالثة أو أكثر من ذلك.

ولم يكن مِن هدي الصحابة أيضًا: ما ابتدعه المتصوفة من مقامات الفناء والدهش، والهيمان والسكر، والجمع والفرق، وغير ذلك مما جعلوه الغاية المقصودة؛ فضلًا عما وقعوا فيه من القول بوحدة الوجود والحلول، والكفر بدين الله ومساواة الأديان والملل؛ بزعم أن هذا السلوك يقربهم إلى الله -عز وجل-.

ولا وُجد في حياة الصحابة -رضي الله عنهم- ولا التابعين ولا تابعيهم أحدٌ اتخذ قبر بعض الصالحين مسجدًا، وتقرَّب إلى الله بذلك، وذهب يدعوهم من دون الله، أو حتى وقف يدعو الله عند قبورهم؛ فإن ذلك ما وقع منه شيء قط، وقد علم الصحابة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وما فعلوا ما يفعله الناس اليوم حول قبور الصالحين؛ فدل ذلك على أن هذا من الشقاق.

فعلم الكلام في الاعتقاد، والتقليد الأعمى والتعصب المذموم، والانتقاء بين المذاهب بالترخص دون دليل، والتصوف الفلسفي والتصوف الخرافي؛ كل ذلك من الشقاق؛ لأنهم تولوا عما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولم يؤمنوا بمثل ما آمن به الصحابة -رضي الله عنهم-، فارزقنا اللهم صحبتهم، وأن نكون معهم في الدار الآخرة.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.