• الرئيسية
  • المقالات
  • وقفات مع آيات (6) قوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ) (موعظة الأسبوع)

وقفات مع آيات (6) قوله -تعالى-: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ) (موعظة الأسبوع)

  • 38

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقد قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(التوبة: 79).

موضوع الآية:

- بيان عظيم يقين الصحابة الصادقين، والإشارة إلى شيء من صفات المنافقين.

قصة نزول الآية:

- روى البخاري عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: "لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الصَّدَقَةِ، كُنَّا نُحَامِلُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بشيءٍ كَثِيرٍ، فَقالوا: مُرَائِي، وجَاءَ رَجُلٌ فَتَصَدَّقَ بصَاعٍ، فَقالوا: إنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عن صَاعِ هذا، فنزلت: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ) الآية.

- وقال ابن كثير -رحمه الله- في التفسير: "وقال الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثًا(1)، قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: يا رسول الله، عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما ربي، وألفين لعيالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت. وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر، فقال: يا رسول الله، أصبت صاعين من تمر، صاع أقرضه لربي، وصاع لعيالي(2)، قال: فلمزه المنافقون وقالوا: ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياءً! وقالوا: ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)" (تفسير ابن كثير).

وقفات مع الآية:

(1) مِن صفات المنافقين: السخرية من المؤمنين:

- المنافقون في كل زمان يتناولون أهل الإيمان بالسخرية والاستهزاء: قال ابن كثير -رحمه الله- في التفسير بعد ذكر الآية: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ): "وهذه أيضًا من صفات المنافقين: لا يسلم أحدٌ مِن عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم؛ إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشيء يسير قالوا: إن الله لغني عن صدقة هذا" (تفسير ابن كثير).

- ومن أحوال المنافقين في عصرنا: (السخرية من السمت الإسلامي (اللحية والحجاب) - التطاول على العلماء والدعاة الى الله، بل والصحابة والأئمة والأعلام).

- المتمسك بتعاليم الإسلام عندهم سفيه، يجب أن يعاقب بالإقصاء والمنع: قال -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لَّا يَعْلَمُونَ(البقرة:13). (أثار بعضهم ضجة إعلامية يطالب بمعاقبة المدرسة التي جمعت الأولاد للصلاة، معتبرًا ذلك تطرفًا، وأما إذا دعتهم للرقص فهو عندهم تحضر ورقي!).

- لذا فعاقبة المنافقين يوم القيامة أشد من سائر الكفار: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا(النساء:140)، وقال: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا(النساء:145).

- لقد جعل الله عذابهم من جنس عملهم (المخادعة والتظاهر بالإسلام): قال -تعالى-: (يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ . يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ . فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(الحديد:12-15).

(2) بذل الصحابة -رضي الله عنهم- مقبول -بإذن الله- في القليل والكثير:

- في الآية شهادة من الله لهم ضمنًا: قال الله -تعالى-: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ).

- ففي هذه الغزوة جعل الناس يأتون بصدقاتهم؛ قليلها وكثيرها: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ(رواه البخاري تعليقًا).

- جاء العباس بمالٍ كثيرٍ، وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء عمر بن الخطاب بنصف ماله، وجاء أبو بكر بماله كله.

- وأما عثمان بن عفان: فقد جاء بثلاثمائة بعير، مائة بعد مائة بأحلاسها وأقتابها، ثم جعل يأتي بالزيادة كلما سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يناشِد الناس حتى بلغت صدقته 900 بعير ومائة فرس، ثم جاء قبْل الخروج إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس فنثر في حجره ألف دينار، فجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقلبها وهو يقول: (مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْمِ) مَرَّتَيْنِ. (رواه الترمذي، وحسنه الألباني).

- ولقد سارع الصحابة -رضوان الله عليهم- بصدقاتهم ونفقاتهم لتجهيز جيش العسرة، ولما رأى فقراء المسلمين ما بذل إخوانهم، اشتاقوا -رغم فقرهم- إلى أن يبذلوا وينفقوا، ولم يتعللوا ويعتذروا بفقرهم: قال ابن حجر -رحمه الله-: "عن أبي مسعود قال: لما أُمِرْنا بالصدقة في تبوك كنا نتحامل، يحمل بعضنا لبعض، فجاء أبو عقيل بنصف صاع"

- حتى الذي بلغ منهم الفقر غايته ولا يملك شيئًا يتصدق به: قال عُلبة بن زيد بن حارثة -رضي الله عنه-: "اللهم إنه ليس عندي ما أتصدق به، اللهم إني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عِرْض"، ثم أصبح مع الناس، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ) فقام عُلبة -رضي الله عنه-، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَبْشِرْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ(رواه البيهقي في شعب الإيمان، وصححه الألباني).

- وهكذا بذل الصحابة غنيهم وفقيرهم -رضي الله عنهم- ما يملكون، يقينًا بأن الله سيجازيهم على ذلك:

(3) مِن مناقب أبي عقيل الأنصاري -رضي الله عنه-:

- أبو عقيل هو الذي لمزه المنافقون لما جاء بصاعٍ من تمرٍ صدقة: فأنزل الله -تعالى- فيه الآية.

- قُتل أبو عقيل -رضي الله عنه- يوم اليمامة شهيدًا في خلافة أبي بكر الصّديق: ذكر ابن سعد في الطبقات: "أخبرنا محمّد بن عمر قال: أخبرنا جعفر بن عبد الله بن أسلم الهَمْداني، قال: لما كان يوم اليمامة، واصطفّ الناس للقتال، كان أوّل الناس جُرح أبو عَقيل الأنيفي، رُمي بسهم فوقع بين منكبيه وفؤاده، فشَطَبَ في غير مَقْتَلٍ، فأُخْرِجَ السهم، ووهن له شقّه الأيسر لما كان فيه، وهذا أوّل النّهار وجُرّ إلى الرّحل فلمّا حَمِيَ القتال وانهزم المسلمون، وجازوا رحالهم، وأبو عقيل واهنٌ من جُرحه، سمع مَعن بن عديّ يصيح بالأنصار: الله، الله، والكَرَّةَ على عدوّكم، وأعنق مَعن يقدم القوم، وذلك حين صاحت الأنصار: أخْلِصُونَا أخْلِصُونَا، فأخْلَصُوا رجلًا رجلًا يُمَيّزُون. قال عبد الله بن عمر: فنهض أبو عَقيل قومه، فقلت: ما تريد يا أبا عقيل؟ ما فيك قتال، قال: قد نّوه المنادي باسمي! قال ابن عمر: فقلتُ: إنّما يقول: يا للأنصار، لا يعني الجرحى. قال أبو عَقيل: أنا رجل من الأنصار وأنا أجيبه ولو حَبْوًا! قال ابن عمر: فتحزّم أبو عقيل وأخذ السيف بيده اليمنى مجرّدًا، ثمّ جعل ينادي: يا للأنصار ... كَرّةً كيوم حُنين! فاجتمعوا -رحمهم الله جميعًا- يقدِّمون المسلمين دُرْبَةً دون عدوّهم، حتى أقحموا عدوّهم الحديقةَ فاختلطوا، واختلفت السيوف بيننا وبينهم. قال ابن عمر: فنظرتُ إلى أبي عَقِيل، وقد قُطعت يده المجروحة من المنكب، فوقع على الأرض وبه من الجراح أربعة عشر جرحًا كلّها قد خلصت إلى مقتل، وقُتل عدوّ الله مُسيلمة. قال ابن عمر: فوقفتُ على أبي عقيل وهو صريع بآخر رمق فقلت: أبا عقيل فقال: لبّيك، بلسان مُلْتَاث، لمَن الدّبْرة؟! قال: قلتُ أبْشر، ورفعتُ صوتي، قد قُتل عدوّ الله، فرفع أصبعه إلى السماء يحمد الله، ومات يرحمه الله. قال ابن عمر: فأخبرتُ عمر بعد أن قدمتُ خبرَه كلّه، فقال: رحمه الله ما زال يسأل الشهادة ويطلبها، وإن كان ما علمتُ من خيار أصحاب نبيِّنا -صَلَّى الله عليه وسلم-، وقديمَ إسلامٍ" (الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/362).

خاتمة:

- تذكير بالآية وقصة النزول، مع الإشارة إلى التفسير العام ليشمل المعنى كل مكان وزمان.

نسأل الله أن يجعل كيد المنافقين في نحورهم.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) وكان هذا البعث عندما أراد الخروج الى تبوك، وكان يريد -صلى الله عليه وسلم- جمع نفقات المعركة التي تأتى في ظروف شديدة الصعوبة كما سمَّاها القرآن وهو يثني على الصحابة: (الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ(التوبة:117)؛ ولذلك سُمِّي بجيش العسرة.

(2) وفي الرواية الأخرى: "وأقبل رجل من فقراء المسلمين من الأنصار، يُقَال له: الحبحاب أبو عقيل، فقال: يا نبي الله، بِتّ أجرُ بالجَرِير على صاعين من تمر؛ فأما صاع فأمسكته لأهلي، وأما صاع فها هو ذا. فقال له المنافقون: إن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل!" (الطبقات الكبرى لابن سعد، 3/362).