تجديد الإيمان بآيات الرحمن من سورة الحجرات (9)

  • 51

(قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(الحجرات:14).

قال المفسِّرون: نزلت في نفرٍ من بني أسد، قَدِموا المدينة في سنةٍ مجدبة وأظهروا الشهادتين، وكانوا يقولون لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتيناك بالأثقال والعيال، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وفلان، يريدون الصَّدقة ويمنُّون على الرسول، وقد دلت الآية على أن الإِيمان مرتبةً أعلى من الإِسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد بالظاهر. والمعنى: قل لهم يا محمد: إنكم لم تؤمنوا بعد؛ لأن الإِيمان تصديقٌ مع ثقةٍ واطمئنانِ قلب، ولم يحصل لكم؛ وإِلا لما مننتم على الرسول بالإِسلام وترك المقاتلة، ولكنْ قولوا: أسلمنا؛ ولهذا قال -تعالى-: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ) أي: ولم يدخل الإِيمان إلى قلوبكم ولم تصلوا إلى حقيقته بعد، ولفظةُ "لمَّا" تفيد التوقع. والمعنى: وسيحصل لكم الإِيمان عند اطلاعكم على محاسن الإِسلام، وتذوقكم لحلاوة الإِيمان.

وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رِجَالًا، وَلَمْ يُعْطِ رَجُلًا مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ سعد -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ-: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَيْتَ فُلَانًا وَفُلَانًا، وَلَمْ تُعْطِ فُلَانًا شَيْئًا وَهُوَ مُؤْمِنٌ! فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: (أَوْ مُسْلِمٌ) حَتَّى أَعَادَهَا سَعْدٌ ثَلَاثًا، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (أَوْ مُسْلِمٌ)، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنِّي أُعْطِي رِجَالًا وَأَدَعُ مَنْ هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُمْ لَا أُعْطِيهِ شَيْئًا مَخَافَةَ أَنْ يُكَبُّوا فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ(رواه أبو داود والنسائي، وصححه الألباني).

فقد فرَّق النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المؤمن والمسلم، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ أَخَصُّ مِنَ الْإِسْلَامِ، ودل عَلَى أَنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ مُسْلِمًا لَيْسَ مُنَافِقًا؛ لأنه تَرَكَهُ مِنَ الْعَطَاءِ، وَوَكَلَهُ إِلَى ما هو فيه من الإسلام.

وهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا منافقين، وإِنما هم مسلمون لم يستحكم الإِيمان في قلوبهم، فادَّعوا لأنفسهم مقامًا أعلى مما وصلوا إليه؛ فأُدِّبوا في ذلك، ولو كانوا منافقين؛ لعُنفوا وفُضِحوا.

(وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا) أي: وإن أطعتم الله ورسوله بالإِخلاص الصادق، والإِيمان الكامل، وعدم المنِّ على الرسول، لا ينقصكم من أجوركم شيئًا.

(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي: عظيم المغفرة، واسع الرحمة؛ لأن صيغة "فعول" و"فعيل" تفيد المبالغة.

ثم ذكر -تعالى- صفات المؤمنين الكُمَّل الصادقين في إِيمانهم فقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أي: إنما المؤمنون الصادقون في دعوى الإِيمان الذين صدَّقوا الله ورسوله، فأقروا لله بالوحدانية، ولرسوله بالرسالة، عن يقين راسخ وإِيمان كامل، لَا كَبَعْضِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ مِّن الإيمان إلا الكلمة الظاهرة (ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا) أي: ثم لم يشكوا ويتزلزلوا في إيمانهم، بل ثبتوا على التصديق واليقين، (وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي: وبذلوا أموالهم ومهجهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه، (أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) أي: أولئك الذين صدقوا في ادِّعاء الإِيمان.

وصف تعالى المؤمنين الكاملين بثلاثة أوصاف:

 الأول: التصديق الجازم بالله ورسوله.

والثاني: عدم الشك والارتياب.

والثالث: الجهاد بالمال والنفس.

فمَن جمع هذه الأوصاف فهو المؤمن الصادق.

(قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ): الاستفهام للإِنكار، أي: قل يا محمد، أتخبرون الله بما في ضمائركم وقلوبكم؟!

(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) أي: وهو -جلَّ وعلا- العليم بأحوال جميع العباد، لا تخفى عليه خافية لا في السماوات ولا في الأرض، (والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي: واسع العلم، رقيب على كل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

(يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ) أي: يعدون إِسلامهم عليك يا محمد منَّة، يستوجبون عليها الحمد والثناء؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: جَاءَتْ بَنُو أَسَدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْلَمْنَا، وَقَاتَلَتْكَ الْعَرَبُ وَلَمْ نُقَاتِلْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (‌إِنَّ ‌فِقْهَهُمْ ‌قَلِيلٌ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ)، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عليَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، وكَمَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْأَنْصَارِ يَوْمَ حُنَيْنٍ: (يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاَّلاً فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي؟ وكنتم عالة فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي؟) كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ. (متفق عليه).

(قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ) أي: قل لهم لا تمتنوا عليَّ بإِسلامكم، فإن نفع ذلك عائد عليكم، (بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ) أي: بل للهِ المنةُ العظيمة عليكم بالهداية للإِيمان والتثبيت عليه، إن كنتم صادقين في دعوى الإِيمان.

(إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) أي: يعلم ما غاب عن الأبصار في السماوات والأرض، (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) أي: مطَّلع على أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية. (تفسير ابن كثير بتصرفٍ).

كرر -تعالى- الإخبار بعلمه بجميع الكائنات، وإحاطته بجميع المخلوقات؛ ليدل على سعة علمه، وشموله لكل صغيرة وكبيرة، في السر والعلن، والظاهر والباطن.