الداعية إلى الله (وقفات تربوية)

  • 56

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالداعية إلى الله: بشر مثل أي بشر، تعتريه لحظات ضعف البشرية من الحزن والألم، والهم والغم، وضيق الصدر، والخطأ والنسيان.

النظرة الملائكية لبعض الدعاة هي التي تصنع منهم أصنامًا تعبد من حيث لا نشعر، بالغلو والتعصب، ثم إذا تحطمت هذه النظرة بخطأ أو هفوة فإن الأمر يستحيل إلى جرح وتجريح، ونقد هدَّام؛ ليس فقط لذوات الدعاة، بل ولمنهجهم ودعوتهم أيضًا؛ لأن أغلب الخلق لا يفرِّقون بين الدعوة والداعية، وهذه أصل مشكلة الانتكاس بشخصنة العمل الدعوي، ونزع ربانيته وتجرده.

والواجب هو النظرة المتوازنة والفصل بين الأشخاص والمنهج، فالثاني معصوم والأول ليس كذلك، فالدعوة إلي الله شرف، ولكنها ليست صكًّا بالغفران أو القداسة والنزاهة المطلقة، بل هي واجب شرعي بين مفرط وقائم به!

والداعية إلى الله: يحتاج دومًا إلى ترياق من خلطة البشر بالعزلة، والتعبد بعبادة التأمل والتفكر، والاستغناء عن الناس، والزهد في لقائهم، ريثما يتحرر قلبه من بعض العلائق التي قد تودي بدعوته؛ بسبب السعي وراء رضا الناس أو الفرار من ذمهم، وهذه العلائق تنبت في القلب من وقت لآخر بحكم البشرية التي تأنس بالناس وتنزع إليهم، وذلك من علامات الإفلاس مِن الحكمة، بخلاف مَن تشبَّع قلبه بالحكمة؛ فإنه يهتم بنضجها في قلبه، وهذا يحتاج إلى خلوة متحلية بطول الفكرة وعمقها.

فالداعية: يحتاج إلى كسب مهارة نزع الصور من قلبه، وتجرده لمعاني الحق والنور التي لا تدخل قلوبًا فيها كلاب الشبهات أو صور الشهوات!

الداعية إلى الله: ليس لقبًا ولا حرفة، ولا تخصصًا يُتخذ سُلمًا لتحقيق الذات أو لصناعة مجد شخصي، أو شهرة وأضواء، بل هي مهمة واجبة على الأمة بأسرها أن تكون خير أمة تنتشر فيها شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كلٌّ حسب قدرته وعلمه، وموقعه وتأثيره، ليس الأمر قاصرًا على مَن اتسم بسمت أو انتمى إلى جماعة أو حزب، أو طريقة أو شيخ، بل الأمر أعظم من ذلك وأعم وأشمل، وينبغي تعبئة جهود الأمة كلها لتصب في إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة بالبلاغ المبين بكافة الوسائل العصرية المنضبطة بالشرع.

الداعية إلى الله: الذي يخالط الناس لابد مِن أن يوطِّن نفسه على الأذى والبلاء، فالله قدَّر أن هذا الطريق؛ طريق الجنة محفوف بالمكاره والمحن والآلام؛ فضلًا عن حقيقة الدنيا التي خُلقت مكدرة منغصة.

يدخر الله لعبده في هذا الطريق مزيدًا من البلاء لمزيدٍ من الأجر، ولمزيدٍ مِن الرحمة؛ فكلما تضاعفت عليه المحن ظهرت طاقته في الصبر والاحتساب، وازداد رحمة وإشفاقا على الخلق أصحاب البلاء الحقيقي بالبُعد عن الله، والتيه عن طريقه -طريق الطمأنينة والسكينة-، وآلام الروح أضعاف أضعاف آلام الأبدان.

فليفهم الإنسان حكمة البلاء، وليحسن الظن بربه، فيصبر ويحتسب، ويرضى ويسلِّم، ويتضرع ويناجي، وييأس من نفسه ومن الناس، ويصدق في اللجوء إلى الله، فيخلص التوحيد الذي ينير قلبه وقلوب مِن حوله، فقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ ‌يُذْهِبُ ‌اللَّهُ ‌بِهِ ‌الْهَمَّ ‌وَالْغَمَّ) (رواه الطبراني في الأوسط، وصححه الألباني).

والدنيا خُلِقت مكدَّرة مليئة بالآلام والغموم والهموم، والذي يذهب بهذه الهموم جمع القلب على إرادة السفر إلى الله -تعالى-، وهم الآخرة والفردوس الأعلى من الجنة، وأعظم مقامات ذلك هو: الجهاد في سبيل الله بالسيف والسنان، وأرفع منه بالكلمة والبيان، وهو المقصود الأعظم من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، قال الله -تعالى-: (‌فَلَا ‌تُطِعِ ‌الْكَافِرِينَ ‌وَجَاهِدْهُمْ ‌بِهِ ‌جِهَادًا ‌كَبِيرًا) (الفرقان:52)، وقال: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ ‌إِلَّا ‌الْبَلَاغُ ‌الْمُبِينُ) (النور: 54)، (‌الَّذِينَ ‌يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) (الأحزاب: 39).

وقال -تعالى-: (‌وَمَنْ ‌أَحْسَنُ ‌قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33)؛ هذه الوظيفة الإخلاص فيها، والتجرد وإنكار الذات، والافتقار إلى الله، والتبرؤ من الحول والقوة، وربانية أدائها تذهب كل هموم قلبك وآلامه، وتضمد جراحه مهما كان مثخنًا من جراح الدنيا، ونصبها ونكدها، وتنغيصها، تنقله إلى عالم فسيح، وسعة صدر وانشراح، وسكينة للخلود والمكوث في الأرض حتى بعد الرحيل بالبصمة الحية، والصدقة الجارية، والنفع المتعدي المستمر، (‌فَأَمَّا ‌الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) (الرعد:17).

الداعية إلى الله: قلبه يتزود من معين التوكل واليقين، فيورثه شجاعة في أداء دعوته، لا يلتفت لدنيا فانية أو شهوات حقيرة، يرمي بالتمرات ويقول: "لئن أنا حييت حتى آكل هذه التمرات، إنها لحياة طويلة"، فارس مغوار يحمل روحه على كفه، لا يخاف في الله لومة لائم، يستلذ بالأمر بالمعروف صدعًا بالحق ولو كان مرًّا، بحكمة وصبر، وعلم وحلم ورفق، يَسْبَح ضد التيار، لا يعبأ بوحشته وانفراده وغربته؛ لأن فرسه الأصيل وسيفه هو الصدق سيف الله في الأرض، ما وضع على شيء إلا قطعه.

يقتحم العقبات ويضحك في وجه المخاطر، ولا ييأس في وطيس المعركة، ولا تزيده المحن إلا إصرارًا وبطولة وفروسية في محراب العبودية بينه وبين الله، وبينه وبين الناس صلاحًا وإصلاحًا، همه أمته في المشارق والمغارب، دعوته عالمية لا تعرف الحدود ولا الحواجز، (‌وَالَّذِينَ ‌يُمَسِّكُونَ ‌بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (الأعراف: 170).

الداعية إلى الله: لا بد أن ينفق دائمًا من الربح، ولا ينفق من رأس المال، بمعنى أن يكون له زاد علمي يتزود منه بلا توقفٍ في المواد العلمية الخادمة والمخدومة، وزاد ثقافي في كل جوانب الثقافة التراثية الأصيلة والعصرية؛ لا بد له من الاطلاع المستمر على كلِّ ثقافات العالم، وفهم لغة الأقوام المختلفة، مع تطوير وسائل دعوته في الأسلوب والأداء واللغة، لا يتقوقع ولا ينغلق، بل يجمع بين الأصالة والمعاصرة، ولا سبيل إلى ذلك إلا بشهوة المعرفة، والشغف بالعلم والقراءة والتثقف، ونهم التساؤل والرقي، مع جودة قريحة، وحِدَّة ذهن، وقوة نفس، ورهافة حس وشعور تجعل الاستيعاب عميقًا، يصب ذلك في نور حكمته وبصيرته؛ فيغدو شمسًا وقَّادة، تضيء للعالمين الطريق، وتخترق الحواجز، ويمشي بالنور في الناس تأثيرًا وتربية.

لا يكون الداعية دنيء الهمة ينظر تحت قدميه، بل يعد نفسه للعالمية والأممية، بالشهادات والدراسات الأكاديمية، مع التعمق في البحث والفهم؛ ليدل الناس على الله مِن كلِّ زاوية وبقعة مهما كانت بعيدة، وفي أقصى مدن الأرض.

الداعية إلى الله: يضبط منطلقاته المنهجية الفكرية، فينطلق من القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، ويحرر مذهب السلف في كل مسألة من مسائل الإيمان والاعتقاد، والعبادات، والمعاملات، والدعوة والتغيير، ومذهبهم في التعامل مع الحكام والمحكومين، والتعامل وقت الفتن والاختلاف، وفهمهم لمقاصد الشريعة وكلياتها، وتناولهم ومعالجتهم للنصوص وتطبيقها وتدريسها، وحتى طريقتهم في الوعظ وترقيق القلوب، وتهذيب الأخلاق، والتدبر والتفكر، والسلوك.

يضبط القضايا الكلية مِن: التوحيد، والولاء والبراء، وحقيقة الانتماء للإسلام، والموالاة والمعاداة عليه، ومسائل الإيمان والكفر، ومسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، والسياسة الشرعية، وفقه التعددية في الإسلام، والتعامل مع الخلاف، مع ضبط مسألة الاتباع بالتفريق بين السنة والبدعة، ويضبط موازين المصلحة والمفسدة، والقدرة والعجز؛ ليفقه كيف يتعامل مع واقعه، بفقه التمكين أو فقه الاستضعاف؛ فهو يفقه: أن لكلِّ مرحلة عبودية.

الداعية إلى الله: ليس بوقًا مشاعريًّا بلا منهج ولا فكر، ولا منطلقات ولا أهداف، فإن مثل هذه الأبواق وإن انجذب إليها العوام والجماهير لا تنتج إلا نتاجًا مشوهًا من شخصيات مهزوزة ضعيفة هشة، صدامية متهورة، لا تتحمل عبء القضية والرسالة، والصبر على طول الطريق، ولا تتحلَّى بالحكمة في اختيار المواقف والمعارك التي يخوضونها في مسيرتهم الإصلاحية.