السلفية والإبداع

  • 95

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فالإتيان بالجديد النافع في شتى مجالات العلوم النظرية والعملية مطلب لا يمكن للحضارات أن تتقدَّم ويكون لها فضل في واقع الإنسان وفي تراثه إلا به، وكل حضارة تنتهي فاعليتُها وأثرها من اللحظة التي تجمد فيها وتتوقف عن الابتكار.

ولا شك أن الأمة الإسلامية توقفت عن الابتكار منذ زمنٍ ليس بالبعيد في مقياس أعمار الحضارات، لكنه بعيد بالنسبة للتسارع المعرفي الذي استجد في الحضارة العالمية.

وفي ظل المراجعات العربية والإسلامية عن أسباب توقف حركة الابتكار بين المسلمين وجدنا أمرًا مؤسفًا جدًّا ممَّن يعالجون هذا الموضوع، لا بنظر الإنصاف والرغبة في الوصول إلى الحقيقة؛ بل بنظر الخصومة المعرفية أو العقدية، فيعمد بعيدًا عن الاستدلال العلمي إلى رمي السلفية بهذه التهمة، وقد كتبتُ عِدَّة مقالات نشرتُها في صحيفة الوطن أردُّ بها على هذه الدعوى، لكنها فِريَة؛ لكثرة دورانِها وتكرارِها وقِلَّةِ من يُوَاجهها أصبحت لدى كثيرٍ من المثقفين بمثابة المُسَلَّمة التي لا تقبل النقاش؛ الأمر الذي حفَّزني لهذا المقال رغم ما قد يجد فيه المتابِع لما أكتب من تكرار بعض المعلومات.

والمنهج السلفي بالدرجة الأولى منهج اتِّباعٍ وتلقٍ شَرْعِيَّيْن؛ ولهذا فهو مسؤول بالدرجة الأولى عن الابتكار في طرائق حَمل الشريعة ونقلها، ومن هذا الجانب، نجد علماء السلف كانوا قادةَ الابتكار في هذا الشأن، كما كانوا قادة المبدعين في بعض الفنون من غيرها.

فإذا قرأنا تاريخ العلوم التي أصبحت بها الأمة الإسلامية أُمة حضارية نجد أن كثيرًا منها ابتكار أتباع منهج السلف، ولو كانت السلفية لا تؤهِّل للابتكار؛ لكان الأَولى أن لا يكون السلف الذين ينتسب لهم السلفيون مبتكرين، لكن الأمر جاء عكس ذلك.

ولنبدأ بالعلوم الشرعية، وأولها: تدوين سيرة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ومغازيه؛ فهي مِن أبرع الابتكارات العلمية، والتي أسهمت في حضور شخصية النبي -صلى الله عليه وسلم- في نفوس المسلمين حتى يومنا هذا، ولم يسبق المسلمين إلى ذلك أيٌّ من أتباع الأنبياء -عليهم السلام-، ولا مِن أتباع الملوك والقادة، وتدوين السيرة؛ إضافةً إلى كونه جهدًا علميًّا مبتكرًا، هو أيضًا تدبير تربوي ودعوي إصلاحي عظيم، ومع وجود كتابات في السيرة مبكرة جدًّا كمغازي عروة بن الزبير (تـ٩٤ وقيل: غير ذلك)؛ إلا أن محمد بن إسحاق بن يسار (تـ١٥١) يظل رائد هذا الفن؛ لما اشتمله كتابه من الصنعة الروائية الدقيقة من ذكر تاريخ العرب قبل الإسلام، الاجتماعي والثقافي والسياسي والعقدي والأخلاقي، وذِكْر ِالتفاصيل التي رافقت السيرة الطاهرة، وعدم الاقتصار عليها، مما يخدم فهم شخصية صاحبها -صلى الله عليه وسلم-، وأَثَرَ ما قام به على العقيدة والأخلاق في المجتمع العربي.

وقد نسج ابن إسحاق سيرته على غير مثال من أي أمَة سابقة، فيكون قد انتقل بالأمة الأمية إلى فَنٍ متقدم في الإبداع الإنساني أَدَبِيًّا وتاريخيًّا ودعويًّا.

والأمر كذلك في جميع فنون العلم الشرعي التي ابتكرها السلف، لم يكن لأي منها مثال صحيح سابق في الأمم التي قبلها.

وعِلْم رواية الحديث ودراسةِ الأسانيد من علوم السلف التي لم يشاركهم في ابتكارها أيٌّ من الأمم السابقة، وإن كان عِلْمًا جَمْعِيًّا، لا يُنسَب ابتكاره لأحدٍ بعينه؛ فهذا في ذاته إبداع إذ يعني أن مجتمع علماء السلف بلغوا من الرقي حدَّ أن يتواطؤوا على قواعد علم لا عهد للإنسانية به، انتهى تطوره إلى مدونات الحديث ذات الأساليب المختلفة في طريقة الترتيب، والتي انبثق منها تدوين علوم مصطلح الحديث التي فاقت الثلاثين علمًا لا نظير لها في طُرُق الرواية من فجر التاريخ.

وقَدَّم الإمام مالك بن أنس (تَـ١٧٩) وتلاميذه هذا الإبداع العظيم في التصنيف الفقهي عبر المدونات التي استقر أهل العلم منها على مُدَوَّنة سحنون (تـ٢٤٠)، والتي كانت المَعْلَمَة الفقهية القانونية الأولى، والتي زعم بعض المستشرقين أنها وما بعدها من مدونات الفقه جاءت على نسق القوانين الرومانية، وهذا كَذِب من المستشرقين لا سند له إلا حسدهم للمسلمين أن يكونوا أول مَن قَدَّم المدونات القانونية والشرعية.

هذا بعض ما يتعلق بالإبداع في العلوم الشرعية التي هي محل اهتمام علماء السلفية.

أما غير علوم الشريعة: فنبدأ بعلم النحو الذي لا يُوجد في قواعد التحدث بجميع لغات العالم مِثْلُه، أسَّسَه التابعي الجليل المخضرم الثقة الفقيه المحدث: أبو الأسود الدؤلي (٦٩هـ)، بإشارة من علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.

وعِلم اللغة الذي أصبحت اللغة العربية به أعظم اللغات جمعًا للمواد اللغوية، واللغة الوحيدة المحفوظ تاريخها وتطورها، نشأ على يد طبقة التابعين ثم كان أولَ جمع له على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي المحدث الثقة الزاهد، أدرك آخر عهد الصحابة وعهد التابعين، كما ابتكر الخليل فن ميزان الشعر، المسمى العروض، وفن القافية (١٦٠هـ).

وفنُّ النقدِ الأدبي كان أبرزَ مؤسسيه: الأديبُ المحدث الثقة محمد بن سلام الجمحي، وهو مِن أقران الإمامين: أحمد والشافعي سنًّا، وروى عنه عبد الله بن أحمد، ووثَّقَه ابنُ حبان.

وفن الاختيارات الأدبية، وهو من أخص الفنون التطبيقية للنقد الأدبي يُعَدُّ مبتكره المفضل الضبي (تـ١٦٩) صاحب كتاب الاختيارات في الشعر، والذي اشتهر باسم المُفضليات، وكان مشاركًا في رواية القرآن، وتلا عليه الكسائي، وقال عنه الخطيب البغدادي: "كان إخباريًّا علامة موثقًا"، وقال ابن المبارك حين سمع نعيه:

نعيَ لي رجالٌ والمفضَّل منهمُ           وكيف تقر العين بعد المفضل

وعلم التاريخ: هو من العلوم التي ابتكرها السلف -رضي الله عنهم- وتداولوها، وأول مَن دوَّن فيه على المنهج الحولي أحد أئمة الحديث، وهو: خليفة بن خياط، صاحب الكتاب المعروف باسمه: (تـ ٢٤٠).

وتنوع علم التاريخ تنوعًا لم يفعله في أمة قبل الأمة الإسلامية على يد أهل الحديث أولًا، ثم تناوله الجميع، فكان علم تاريخ الطبقات، ولعل مِن أوائلها: طبقات محمد بن سعد (تـ٢٣٠)، وكتب التاريخ للفتوحات، وكان من أوائلها: كتاب أحمد البلاذري (تـ٢٧٩) فتوح البلدان.

والتأريخ للمدن وذكر أعيان أهلها: كتاريخ نيسابور للحاكم النيسابوري (تـ٤٠٥)، وتاريخ أصفهان للمحدث الزاهد أبي نعيم الأصفهاني (تـ٤٣٠)، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي (تـ٤٦٣)، وغيرها من تواريخ البلدان التي تُعدُّ أول كتب اعتنت بالتاريخ الاجتماعي والأخلاقي.

أما فيما يتعلق بالعلوم النظرية التجريبية: فقد كانت الدول الإسلامية التي رعت المنهج السلفي وهي الدولة الأموية والدولة العباسية حتى عصر المأمون كانت راعية لتلك العلوم، وظهر فيها وتحت عنايتها كبار الأطباء والرياضيين والجغرافيين، والفلكيين والكيميائيين والمهندسين، وكان الأمير خالد بن يزيد (تـ٩٠) من أوائل الكيميائيين المسلمين، وقد عظمت رعاية الدولة لهذه العلوم في عهد أبي جعفر المنصور (تـ١٥٨)، الذي كان يعتني هو بنفسه بها، وهو مع انشغاله بتأسيس الدولة ثم بالخلافة كان عالمًا فقيهًا صحيح العقيدة، مع ما روى له التاريخ من أخطاء، وجاء حفيده هارون الرشيد (تـ١٩٣)، فأسس بيت الحكمة، وجمع فيه من رواد هذه العلوم العدد الكبير كجابر بن حيان (تـ١٩٧) مؤسس المنهج التجريبي في الكيمياء، ومحمد بن موسى الخوارزمي (تـ ٢٣٢) الذي جمع بين تلك العلوم وأبدع في جميعها، ومعروف بتأسيس علم الجبر وغيره من المخترعات.

وغير هذين كثير من الرياضيين والكيميائيين والمهندسين عَمَرَ بهم ذلك العهد، وهو عهد سلفي من حيثُ نظام الحكم، ومن حيث الجو العلمي السائد، ولم يُعرف من علماء الشريعة في ذلك العصر -وهم كبار مراجع العلم السلفي- اعتراض على هذه العلوم، ولا على تشجيع الدولة لها، وبين أيدينا فتاوى الأئمة الأربعة وأئمة أهل الحديث، وليس فيها شيء من ذلك؛ وذلك لأن علماء بيت الحكمة مع انحراف كثيرٍ منهم عقديًّا؛ بل بعضهم مِن النصارى والصابئة، كانوا ملتزمين علومهم العملية التي لا تتعارض مع الدين، وملتزمين الأدب مع تراث الأمة ومشاعر المجتمع؛ لذلك لم يعرف ذلك العهد مواجهة بينهم وبين علماء الشريعة.

وفي آخر عهد المأمون (تـ٢٨١) تراجع بيت الحكمة عمَّا أُسِّسه هارون الرشيد لأجله؛ لأن الخليفة شَغَل هذه المؤسسة بالعلوم التي لا جدوى منها كفلسفات ما وراء الطبيعة، وسَخَّرَ جهود المترجمين لها، مما أدَّى إلى الانصراف الكامل عن التقدُّم بالعلم النظري والتجريبي عن رعاية الدولة، وانشغال الأذكياء بالخصومات الدينية التي أوجدها تراجمةُ الفلسفة وترهاتِها، ورَعَت الدولة هذه الخصومات ولم تقف منها موقفًا محايدًا، وإنما تَعَصَّبَت لخلاف مذهب أهل السنة والجماعة، ومع ذلك لم يعترض العلماء إلا على الفلسفات التي تتعارض مع الدِّين، ولم يعترضوا قط على العلوم العملية النافعة، ومَن سُجِن مِن المشتغلين بتك العلوم، فليس لعلماء الشريعة دور في سجنه، كجابر بن حيان الذي اعتُقِل بسبب علاقته بالبرامكة، وهو شأن سياسي محض.

هكذا كان الحال في عصر السلف -رضي الله عنهم-، ومِن المُلاحَظ تاريخيًّا: أنه حتى بعد عصور السلف الأولى وغَلَبَة المذاهب البدعية، لم يكن علماء الشريعة يُعَارضون أهل العلوم العملية ما داموا لم يعتدوا على العقيدة، فإذا فعلوا ذلك فليس للعلماء إلا بيانُ الحق، لكنَّ مَن نُكِب منهم لا يُثبتُ التاريخ أن واحدًا منهم كان علماء الشريعة وراء نكبته، وأَظْهَرُ مثالٍ لذلك: ابن سينا (تـ٤٢٨)؛ فبالرغم مما تضمنته بعض مؤلفاته من كفريات، فإن ما تَعَرَّض له من سَجْنٍ كان بسبب عمله في السياسة، ولعل أبرز فتوى بتكفيره كانت بعد وفاته بنحو مائة عام مِنْ قِبَلِ أبي حامدٍ الغزالي (تـ٥٠٥)، وهو ليس من السلفيين، ومع ذلك فهو لم يقل -رحمه الله- فيه إلا حقًّا، ولم يتطرق في فتواه تلك لمعارفه العملية النافعة من الطب والرياضيات، والفلك والجغرافيا، بل ظلت محل إجلال، ومَن قرأ ترجمة الذهبي لابن سينا في سير أعلام النبلاء يجد عظم حجم الإشادة به مِن أول الترجمة، ثم ذكر توبته، ونقل وصيته.

هذا، والملحوظ: أن توقف التطور في أكثر هذه العلوم سوى الهندسة العمرانية ابتدأ مع انتهاء سيادة الفهم السلفي للدين، وشيوع الفكر البِدعي الخُرافي للمذاهب المنحرفة، مِن: صوفية، وباطنية، وغيرها، وبقي الأمر كذلك حتى أوطأ الجهلُ الأعداءَ في جميع ديار المسلمين إلا ما شاء الله، ولم يُعِدْهُم إلى يَقظتهم إلا عودة الحياة للمنهج السلفي مع قيام الدولة السعودية الأولى، والتي كانت بمثابة إشارة الانطلاق للحياة الفكرية في العالم الإسلامي، والانتفاضة المباركة على الخرافة والجهل، فكانت تلك الحركة السلفية هي الأم لجميع حركات التحرر الفكري، وأم لجميع حركات التحرر من الاستعمار، وأم لجميع حركات التحرر من الجهل، الموافقة منها لمنهج السلف والمخالفة له، الجميعُ لم يُقْدِم نحو التحرر إلا بتأثير من الدعوة السلفية، وإن قال مَن قال زورًا: إن ذلك بتأثير الحملة الفرنسية؛ فليس لهذا القول سند إلا مِن الوهم، وكما يُقال: الإنصاف عزيز.

نخلص من كل هذا: أن ذلك المغتر الذي ألَّف كتابًا عن السلفية يزعم عداوتها للابتكار لم يحمله على ذلك بحث ولا علم، وإنما موجة عابرة تجاه السلفية ركبها يظن لعماه أنها سنام بعير.