فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ

  • 42

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فإن الاستقامة هي لزوم طاعة الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وسبيل تحصيلها هو الاتباع الذي هو أصل الاستقامة وبوابته الرئيسية التي توصل إليه، فمَن اتبع استقام، ومَن لم يتبع زاغ، ولم يبلغ المرام؛ لذا كان أهل الأهواء والبدع هم أبعد الناس عن الاستقامة حيث كانوا أبعد الناس عن الاتباع.

وفى الحث على الاستقامة يقول الله -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود:112- 113).

فهذه الآيات المباركة تمثِّل منهج حياة للناس في أوقات الأزمات، وبصائر لهم في أزمنة الفتن والابتلاءات، وتسطر قواعد وفقه التعامل مع كل ذلك في أصول جامعة نافعة، فسياق الآيات بعد أن أمرت بلزوم الاستقامة على أوامر الله -تعالى-؛ لا على الأهواء، ولا على العقول والآراء، أشارت إلى الحذر مِن موانعها ومعوقات تحصيلها في نهيين متتاليين، وهما: (وَلاَ تَطْغَوْا) (وَلاَ تَرْكَنُوا)، وهو ما أشار إليه الحسن -رضي الله عنه- في قوله: "سبحان مَن جعل الاعتدال في الدِّين في لائين: (وَلاَ تَطْغَوْا) (وَلاَ تَرْكَنُوا)".

وقد أنزل الله -تعالى- هذه الآيات تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وتسرية عنه وعن أتباعه؛ لأنها تقصُّ عليه ما حدث لإخوانه الرُّسل من أنواع الابتلاء؛ ليتأسَّى بهم في الصبر والثبات، وتعالج حالة نفسية لأناسٍ في وضعٍ عصيبٍ للغاية.

فجاءت لتوضِّح لنا بجلاء أن مَن يمر بهذه الأزمات والمحن، قد يتصرف وَفْق أحد هذه التصرفات:  

1- أن يفقد الأمل والعمل.

2- يتهور ويلجأ إلى العنف والتصرفات غير المحسوبة، وتدمير الغير.

3- يركن للقوي ويعيش في ظله، ويترك قضيته وينتهي أمره على هذا النحو.

لكننا نرى الرسل وأتباعهم لم ينجرفوا إلى هذه التصرفات، وجاءت الآيات تدعو الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عدم التوجُّه إلى هذه السلوكيات والاختيارات غير محمودة العواقب، فجاءت أصلًا محوريًّا يمثِّل أساس الاستقامة، فقال -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ).

فكانت هذه الآيات بمثابة التوجيه الإلهي للرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه؛ كيف يتصرفون عند المحن والابتلاءات التي قد تصيبهم وتصيب الناس في أيِّ زمان أو مكان، فلا يخرجون عن حدِّ الاعتدال حيث لا طغيان ولا ركون، ملتزمون في ذلك باعتبارات المصلحة والمفسدة، وهذا كله على عكس التصرفات المتوقعة ممَّن أصابته المحن، أو وقع في الابتلاء -كما أوردنا سلفًا-.

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحدِّ مِن النصح للمسلمين وتوجيههم لما فيه الخير والفلاح لهم، بل أشارت الآيات التي بعدها مباشرة إلى أمرين رئيسيين يتحقق بهما الثبات على الاستقامة في الدِّين، وهما: (إقامة الصلاة والصبر)، فقال -تعالى-: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ . وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (هود:114-115)، وهو موافق لقوله -تعالى-: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45).

ليعلم الناس جميعًا: أن سبيلَ تحصيل الاستقامة هو: الصبر وإقامة الصلاة.

فتبيَّن لنا بذلك: أن طريق الاستقامة وسط بين طرفين، وأن أهل الاستقامة هم الأمة الوسط.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.