عِبَرٌ مِن التاريخ... الحرص على طلب العلم مع شدة الحال ومقاساة الأهوال!

  • 96

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

قال ابن أبي حاتم الرازي في كتابه: "سمعت أبي يقول: لما خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار وركبنا البحر، وكنا ثلاثة أنفس: أبو زهير المرورزذي شيخ، وآخر نيسابوري، فركبنا البحر وكانت الريح في وجوهنا، فبقينا في البحر ثلاثة أشهر وضاقت صدورنا وفني ما كان معنا من الزاد، وبقيت بقية فخرجنا إلى البر فجعلنا نمشي أيامًا على البر حتى فني ما كان معنا من الزاد والماء فمشينا يومًا وليلة لم يأكل أحدٌ منا شيئًا ولا شربنا، واليوم الثاني كمثل واليوم الثالث، كل يوم نمشي إلى الليل فإذا جاء المساء صلينا وألقينا بأنفسنا حيث كنا، وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء.

فلما أصبحنا اليوم الثالث جعلنا نمشي على قدر طاقتنا فسقط الشيخ مغشيًا عليه فجئنا نحركه وهو لا يعقل فتركناه ومشينا أنا وصاحبي النيسابوري قدر فرسخ أو فرسخين فضعفت وسقطت مغشيًا عليَّ ومضى صاحبي وتركني، فلم يزل هو يمشي إذ بصر من بعيدٍ قومًا قد قربوا سفينتهم من البر، ونزلوا على بئر موسى -صلى الله عليه وسلم-، فلما عاينهم لوَّح بثوبه إليهم، فجاءوه معهم الماء في إداوة فسقوه وأخذوا بيده فقال لهم: الحقوا رفيقين لي قد ألقوا بأنفسهم مغشيًا عليهم، فما شعرت إلا برجل يصب الماء على وجهي ففتحت عيني فقلت: اسقني. فصب من الماء في ركوة أو مشربة شيئًا يسيرًا، فشربت ورجعت إلى نفسي ولم يروني ذلك القدر، فقلت: اسقني فسقاني شيئًا يسيرًا وأخذ بيدي، فقلت: ورائي شيخ ملقى، قال: قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجر رجلي ويسقيني شيئًا بعد شيء حتى إذا بلغت إلى عند سفينتهم وأتوا برفيقي الثالث الشيخ، وأحسنوا إلينا أهل السفينة، فبقينا أيامًا حتى رجعت إلينا أنفسنا، ثم كتبوا لنا كتابًا إلى مدينة يُقَال لها: راية إلى واليهم، وزودونا من الكعك والسويق والماء.

فلم نزل نمشي حتى نفذ ما كان معنا من الماء والسويق والكعك، فجعلنا نمشي جياعًا عطاشًا على شط البحر حتى وقعنا إلى سلحفاة قد رمى به البحر مثل الترس، فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السلحفاة فانفلق ظهره، وإذا فيها مثل صفرة البيض فأخذنا من بعض الأصداف الملقى على شط البحر فجعلنا نغترف من ذلك الأصفر فنتحساه حتى سكن عنا الجوع والعطش، ثم مررنا وتحملنا حتى دخلنا مدينة الراية وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم فأنزلنا في داره وأحسن إلينا، وكان يقدِّم إلينا كل يوم القرع ويقول لخادمه: هاتي لهم باليقطين المبارك، فيقدم إلينا من ذاك اليقطين مع الخبز أيامًا، فقال واحد منا بالفارسية: لا تدعو باللحم المشئوم؟ وجعل يسمع الرجل صاحب الدار، فقال: أنا أحسن بالفارسية، فإن جدتي كانت هروية فأتانا بعد ذلك باللحم، ثم خرجنا من هناك وزودنا إلى أن بلغنا مصر" (الجرح والتعديل، 1/ 364-366).

فتأمل في هذه المواقف وانظر كيف صبرهم على السفر في طلب العلم وعدم الرجوع عندما جاءتهم السفينة، بل أصروا على إكمال رحلتهم حتى يصلوا إلى بغيتهم، مع ما لاقوه من شدةٍ وتعبٍ، وجوعٍ وعطشٍ، وقد كان تبويب ابن أبي حاتم على هذه المواقف معبِّرًا ومحفِّزًا، فقد قال: "‌‌باب ما لقي أبي من المقاساة في طلب العلم من الشدة".

وكم في التاريخ مِن عِبَرٍ، فاعْتبروا يا أولي الأبصار.