عِبَر من قصة سليمان -عليه السلام-

  • 76

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد ذكر الله -تعالى- قصص أنبيائه ورسله -عليهم السلام- في كتابه؛ ليكونوا قدوة، وذكرى للعابدين، كما قال -تعالى-: (‌لَقَدْ ‌كَانَ ‌فِي ‌قَصَصِهِمْ ‌عِبْرَةٌ ‌لِأُولِي ‌الْأَلْبَابِ) (يوسف:111)، وقال في ذِكْر أيوب -عليه السلام-: (وَآتَيْنَاهُ ‌أَهْلَهُ ‌وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء:84وقال: (﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ‌فَبِهُدَاهُمُ ‌اقْتَدِهْ) (الأنعام:90).

ومن ذلك ما ذكره الله -تعالى- عن نبيه سليمان -عليه السلام- في سورة "صاد" من أنه "أواب"، أي: رجَّاع إلى ربه -تعالى-، كثير التوبة والإنابة، قال الله -تعالى-: (‌وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ . إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ . فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ . رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ) (ص:30-33).

فقوله -تعالى-: (‌وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ) أي: نبيًّا؛ فقد كان له بنون غيره، وهذه كقوله -تعالى-: (‌وَوَرِثَ ‌سُلَيْمَانُ دَاوُودَ) (النمل:16)، أي: في النبوة، (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أي: رَجَّاع إلى ربه منيب.

(إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) أي: "عُرِض عليه في حال مملكته وسلطانه، الخيل الصافنات، قال مجاهد: هي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة. والجياد: السراع، وكذا قال غير واحدٍ مِن السلف. وقد كان عددها كثيرًا، حتى قال إبراهيم التيمي: كانت عشرين ألفًا، فعقرها. قال ابن كثير: وهذا أشبه، والله أعلم" (تفسير ابن كثير).

(فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ): ذكر غير واحد من السلف: أنه شُغِل بعرضها حتى فاتته صلاة العشي (العصر)، والذي يُقطع به أنه تركها نسيانًا لا عمدًا. ويُحتمل أنه كان سائغًا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال، وإنما تُراد الخيل للقتال، وهذا أقرب؛ لأنه قال بعدها: (رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ).

وللسلف قولان في المقصود بالمسح:

قال ابن كثير -رحمه الله-: "قال ابن عباس: مسح أعراف الخيل وعراقيبها حبالها، وهذا القول اختاره ابن جرير، وقال معللًا: لأنه لم يكن ليقتل ويعذب حيوانًا بالعرقبة بلا سببٍ سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها. قال ابن كثير: وهذا الذي رجح به ابن جرير فيه نظر ...

والقول الثاني: عرقبها وعقرها: قال الحسن وقتادة وغير واحد من السلف: لا والله، لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك، ثم أمر بها فعُقرت. قال الإمام ابن كثير -رحمه الله-: وقد يكون في شرعهم جواز ذلك؛ لا سيما إذا كان غضبًا لله -عز وجل-؛ بسبب أنه اشتغل بها حتى خرج وقت الصلاة؛ ولهذا لما خرج منها عوَّضه الله -تعالى- ما هو خير منها، وهي الريح؛ فهذه أسرع وخير من الخيل ... وقال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّكَ لَنْ ‌تَدَعَ ‌شَيْئًا ‌لِلَّهِ إِلَّا بَدَّلَكَ اللهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ) (أخرجه أحمد في المسند)" (انتهى من تفسير ابن كثير بتصرف).

وهذا موقف في التوبة عجيب!  

ثم ذكر - تعالى- موقفًا آخر له، فقال: (‌وَلَقَدْ ‌فَتَنَّا ‌سُلَيْمَانَ ‌وَأَلْقَيْنَا ‌عَلَى ‌كُرْسِيِّهِ ‌جَسَدًا ‌ثُمَّ ‌أَنَابَ . قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ . فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ . وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ . وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ . هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ . وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) (ص:34-40).

قوله تعالى: (‌وَلَقَدْ ‌فَتَنَّا ‌سُلَيْمَانَ) أي: ولقد اختبرناه بأن سلبناه المُلك مرة. (‌وَأَلْقَيْنَا ‌عَلَى ‌كُرْسِيِّهِ ‌جَسَدًا): قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد من السلف: شيطانًا متمثلًا بإنسان.

قال السعدي -رحمه الله-: "قضى الله وقدَّر أن يجلس على كرسي ملكه، ويتصرف في الملك في مدة فتنة سليمان" (تفسير السعدي).

(‌ثُمَّ ‌أَنَابَ): رجع إلى ربه -تعالى-، وتاب إليه.

(قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) أي: اغفر لي ذنوبي، وأعطني ملكًا خاصًّا بي، لا يكون لأحدٍ مِن بعدي مِن البشر مثله.

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وهو الصحيح ... ولحديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، فَأَمْكَنَنِي اللهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ ‌إِلَى ‌سَارِيَةٍ ‌مِنْ ‌سَوَارِي الْمَسْجِدِ؛ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا) (متفق عليه)".

(فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ) أي: حيث أراد مِن البلاد.

قال الحسن البصري: "لما عقر سليمان الخيل غضبًا لله -عز وجل- عوَّضه الله ما هو خير منها، وأسرع؛ الريح التي غدوها شهر، ورواحها شهر".

- (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) أي" سخَّر الله -تعالى- له الشياطين يبنون له ما يريد، ويغوصون له في البحر، يستخرجون الدر والحلي.

- (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) أي: مَن عصاه قرنه في الأصفاد وأوثقه.

- (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) أي: فقر به عينًا؛ فأعطِ مَن شئت، أو أمسك عمَّن شئت بغير حساب عليك؛ لعلمه -تعالى- بكمال عدله، وحُسن أحكامه.

- (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ) أي: وهو مِن المقربين عند الله، المكرمين بأنواع الكرامات.

فوائد القصة:

في هذه الآيات الكريمة كثير من الفوائد والدروس، فمن ذلك:

1- أن نعمة الولد محض فضل من الله -تعالى-: ومِن قرة العين للعبد أن يرزقه الله -تعالى- ولدًا صالحًا، وإن جعله عالمًا كان نورًا على نور.

2- اتفقت الأمة على ‏أن الرُّسُل معصومون في تحمل الرسالة: فلا ينسون شيئًا مما أوحاه الله إليهم، إلا شيئًا قد ‏نُسِخ، وأنهم معصومون في التبليغ عن الله -سبحانه وتعالى-، ولا ‏يكتمون شيئًا مما أوحاه الله إليهم، وكذا من الكبائر دون الصغائر.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء ‏الإسلام، وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدى: ‏أن هذا قول الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير، والحديث، والفقهاء، بل لم ينقل ‏عن السلف والأئمة، والصحابة والتابعين وتابعيهم، إلا ما يوافق هذا القول" (انتهى)، لكنهم لا يُقرون عليه؛ فيسارعون إلى التوبة والإنابة، كما ذكر الله -تعالى- عن الأبوين قولهما: (قَالَا ‌رَبَّنَا ‌ظَلَمْنَا ‌أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف:23).

وقال عن داود -عليه السلام-: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا ‌فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) (ص:24)، ومدح سليمان -عليه السلام- في هذه الآيات بقوله: (‌وَلَقَدْ ‌فَتَنَّا ‌سُلَيْمَانَ ‌وَأَلْقَيْنَا ‌عَلَى ‌كُرْسِيِّهِ ‌جَسَدًا ‌ثُمَّ ‌أَنَابَ . قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، كما أنهم بعد التوبة يكونون أكمل حالًا كما وجدنا ذلك في هذه الآيات الكريمة.

قال بعض السلف: "كان داود -عليه السلام- بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة"، وذنبه هنا هو: تسرعه في الحكم قبل أن يسمع من الخصم ‏الثاني.

وقال السعدي -رحمه الله-: "وفيه اعتناء الله بأنبيائه إذا وقع منهم بعض الخلل بما يزول عنهم المحذور، ويعودون إلى أكمل حالاتهم".

3- التوبة أحب الأعمال إلي الله: قال الله- تعالى-: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (البقرة:222)، وقال - صلى الله عليه وسلم-: (لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِن أَحَدِكُمْ كانَ علَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فلاةٍ، فَانْفَلَتَتْ منه وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فأيِسَ منها، فأتَى شَجَرَةً، فَاضْطَجَعَ في ظِلِّهَا، قدْ أَيِسَ مِن رَاحِلَتِهِ، فَبيْنَا هو كَذلكَ إِذَا هو بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ، فأخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قالَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفَرَحِ) (رواه مسلم).

وقال بعض السلف: "لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه".

ولذلك فإن التوبة هي للمؤمن وظيفة عمره.

4- في توبة سليمان -عليه السلام- وإنابته إلي الله -تعالى-: ذكرى عظيمة للمؤمنين؛ لا سيما وأن (كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ ‌وَخَيْرُ ‌الخَطَّائِينَ ‌التَّوَّابُونَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)، أنهم إذا أذنبوا سارعوا بالتوبة والإنابة إلى الله -تعالى-، ولم يُصروا، أو يسوفوا.

وإن كان ثَمَّ قواطع أو شواغل تشغلهم عن أداء الواجب، أو التي توقعهم في معصية الله -تعالى- تخلصوا منها ابتغاء مرضاة الله، كما فعل سليمان -عليه السلام- فقد عقر الخيل لما شغلته عن صلاة العصر حتى خرج وقتها، فعوَّضه الله خيرًا منها الريح، كذلك إذا ترك العبد شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-.  

قال السعدي -رحمه الله-: "ومنها: أن كل ما أشغل العبد عن الله، فإنه مشؤوم ومذموم فليفارقه، وليقبل على ما هو أنفع له".

5- شكرُ العبد لربه -تعالى- على هدايته للملة الحنيفية، والشرعة السمحة: فهي شريعة المحاسن، ومن محاسنها: أن الله لم يجعل شرع مِن قبلنا شرعا لنا إلا إذا جاء في شرعنا ما يوافقه، فقد يكون عقر الخيول غضبًا لله -تعالى- إن شغلته عن الصلاة جائزًا في شرعة سليمان -عليه السلام-، لكنه ليس بجائز في شرعنا إتلاف المال؛ فقد نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال، والضرر لا يزال بالضرر؛ إنما على العبد أن يتوب إلى الله -تعالى- بأن يقلع عن الذنب فورًا، ويعزم على عدم العود، وأن يفارق أسباب المعصية، وإن تصدق به فلا بأس؛ فقد تصدق عمر -رضي الله عنه- بأرض قيمتها مائتا ألف درهم لما فاتته صلاة العصر في جماعة (الإحياء). والله أعلم.

6- تقديم سليمان -عليه السلام- محبة الله -تعالى- على محبة كل شيء.  

7- قال السعدي -رحمه الله-: "ومنها القاعدة المشهورة: أن مَن ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، فسليمان -عليه السلام- لما عقر الخيل الجياد المحبوبة لنفسه تقديمًا لمحبة الله، عوَّضه الله خيرًا منها الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وسخَّر له الشياطين التي تعمل أعمالًا لا يقدر عليها الآدميون".

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "العوض أنواع مختلفة، أجلُّها الأنس بالله ومحبته، وطمأنينة القلب به، وقوته، ونشاطه، وفرجه ورضاه عن ربه -تعالى-".

8- أن تسخير الشياطين لا يكون لأحدٍ بعد سليمان -عليه السلام-.

9- قال السعدي -رحمه الله-: "إن حال النبي العبد أكمل مِن حال الملك النبي، فالملك النبي يفعل ما أراد في حدود العدل، أما النبي العبد فلا يفعل إلا بالأمر كحال نبينا -صلى الله عليه وسلم- فكانت أكمل، وقد خُيِّر -صلى الله عليه وسلم- بين أن يكون مَلِكًا نبيًّا أو عبدًا نبيًّا؛ فاختار أن يكون عبدًا نبيًّا -صلى الله عليه وسلم-".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.