تعلَّم ثم تكلَّم

  • 226

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة:3).

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِنَ الآخَرِ: كِتَابُ اللهِ حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلُ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا ‌حَتَّى ‌يَرِدَا ‌عَلَيَّ ‌الحَوْضَ فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

اعلم أخي المسلم: أن الله -تبارك وتعالى- قد بَعَثَ رسوله نبينا محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وأنزل عليه كتابه القرآن الكريم من أجل هداية الناس وإصلاحهم، فيكملوا ويسعدوا في دنياهم وأخراهم، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا . فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) (النساء:174-175).

والبرهان في الآية الكريمة هو: النبي -صلى الله علية وسلم-، والنور هو: القرآن الكريم؛ فافهم، وبهذا عرفنا: أن هداية الناس وإصلاحهم ليكملوا في أرواحهم، ويفضلوا في أخلاقهم لا تتم إلا على طريق الوحي الإلهي المتمثِّل في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، فإن الله -عز وجل- يوحي بالأمر والرسول يبلِّغه، ويبيِّن كيفية العمل به، والمؤمنون يعملون به فيكملون عليه ويسعدون به، ولا سعادة إلا بالعمل بالوحي المتمثل في القرآن والسنة.

وسر هذا: أن الله رب العالمين، أي: خالقهم ومربيهم، ومدبر أمورهم، ومالكها عليهم، فالناس كلهم مفتقرون إليه في خلقهم وإيجادهم، ورزقهم وإمدادهم، وتربيتهم، وهدايتهم وإصلاحهم .

وها أنت تشاهد أهل الأديان الباطلة (الشرائع): كاليهودية والنصرانية والمجوسية، وغيرها، فهل اهتدوا بها أو كملوا أو سعدوا عليها؟ لا؛ لأنها ليست من شرع الله، فبدلوا وحرَّفوا وغيَّروا، كما أننا نشاهد القوانين الوضعية التي وضعها الناس لتحقيق العدالة بين الناس، وحفظ أرواحهم وأموالهم، وصيانة أعراضهم وتكميل أخلاقهم، فهل حققت ما أريد منها؟ لا!

كما نشاهد أهل البدع في أمة الإسلام، وأنهم أفسد الناس عقولًا وأرذلهم أخلاقًا، وأحطهم نفوسًا، وهذه القوانين التي مِن وضع البشر؛ كيف فَرَّقت كلمتهم وحقرت شأنهم، وذلوا وهانوا؟! وما ذاك إلا أنهم يعملون بغير الوحي الإلهي، قال الله -تعالى-: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) (الشورى:21).

واسمع إلى قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنْ ‌أَحْدَثَ ‌فِي ‌أَمْرِنَا ‌هَذَا ‌مَا ‌لَيْسَ ‌مِنْهُ ‌فَهُوَ ‌رَدٌّ) (متفق عليه)، وقال: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ) (متفق عليه). يعني: مردود على صاحبة غير مقبول، ولا يُثَاب عليه.

وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الإسلام، وهو كالميزان للأعمال في ظاهرها، كما أن حديث: (إِنَّمَا ‌الْأَعْمَالُ ‌بِالنِّيَّاتِ) (متفق عليه)، ميزان للأعمال في باطنها، وفيه بيان لحدِّ البدعة، والأثر المترتب عليها والتحذير منها.

قوله: (‌مَنْ ‌أَحْدَثَ): الإحداث هو الابتداع كما فسَّره النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (‌وَإِيَّاكُمْ ‌وَمُحْدَثَاتِ ‌الْأُمُورِ، ‌فَإِنَّ ‌كُلَّ ‌مُحْدَثَةٍ ‌بِدْعَةٌ) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

والبدعة هي: كل قول أو فعل محدث نُسِب إلى الدِّين، وليس له أصل في الكتاب أو السنة أو الإجماع.

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "البدعة ما خالفت الكتاب والسنة، أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات".

قال ابن رجب -رحمه الله-: "والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه".

وقال أيضًا: "فكل مَن أحدث شيئًا ونسبه إلى الدِّين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدِّين منه بريء".

والحاصل: أن إطلاق البدعة على عملٍ معينٍ، يُشترَط فيه قيود ثلاثة:

1- أن يكون العمل محدثًا.

2- أن ينسب ويضاف إلى الدين.

3- أن لا يكون له أصل في الشرع.

- والبدع كلها محرمة مذمومة شرعًا؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَكُلُّ ‌مُحْدَثَةٍ ‌بِدْعَةٌ وَكُلُّ بِدْعَةٍ ‌ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ‌ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ) (رواه النسائي، وصححه الألباني)، وليس في الدين بدعة حسنة كما يزعم ذلك أهل البدع، وحكم النبي في البدعة قاعدة عامة لا يستثنى منها شيء، ومَن استثنى شيئًا؛ فعليه بالدليل، ولا يحفظ في ذلك شيء مرفوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.

- تجري البدعة في الأمور التعبدية التي يُتقَرَّب بها إلى الله؛ أما العادات التي لا تشوبها عبادة، والأمور الدنيوية فلا مدخل لها في باب البدعة؛ ولذلك يجوز الانتفاع في كل ما يحقق مصلحة دينية أو دنيوية.

- هناك فرق ظاهر بين البدعة والمصلحة المرسلة: فالبدعة تكون في الأمور التعبدية ويقصد بها التقرب إلى الله، وليس لها أصل في الشرع؛ لا في جنسها ولا في عينها، أما المصلحة المرسلة فتكون في الوسائل، ولا يُقصَد التعبد بها، وقد دَلَّ الشرع على اعتبار جنسها، وليس فيها مخالفة للشرع، ومنافاة لمقاصده.

- مَن أحدث بدعة ودعا الناس إليها؛ فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، ومَن دعا الناس إلى سنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌مَنْ ‌سَنَّ ‌فِي ‌الْإِسْلَامِ ‌سُنَّةً ‌حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) (رواه مسلم).

- جنس البدعة أشد من جنس المعصية؛ لأن العاصي يعمل الذنب لشهوة من غير اعتقاد، وهو في قرارة نفسه يعلم أنه مخالف للشرع، ودائمًا يحدث نفسه بالتوبة، أما المبتدع فيعمل البدعة عن اعتقاد أنها من الدين ويتقرب إلى الله بذلك، ولا يزداد إلا إصرارًا على بدعته كما قال -تعالى-: (‌أَفَمَنْ ‌زُيِّنَ ‌لَهُ ‌سُوءُ ‌عَمَلِهِ ‌فَرَآهُ ‌حَسَنًا) (فاطر:8).

وقال سفيان الثوري -رحمه الله-: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يُتَاب منها، والبدع لا يتاب منها".

وفي الأثر أن إبليس قال: "أهلكت بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا".

فقولي لأهل البدع: تعلَّم ثم تكلَّم.

والحمد لله رب العالمين.