الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (36) دعوة إبراهيم لملك زمانه إلى التوحيد (3)

  • 102


كتبه/ ياسر برهامي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقوله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى ‌الَّذِي ‌حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (البقرة:258).

في هذه الآية من الفوائد:

الأولى: أن دعوة إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم تقتصِر على أبيه وقومه من العامة، بل دعا ملك زمانه إلى توحيد الله وعبادته، ومشاهدة آياته في الكون، فالدعوة إلى الله لا بد أن تشمل الجميع؛ لا تقتصر على دعوة العامة دون الملوك والكبراء، ولا على الكبراء دون العامة.

الثانية: أن إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- لم يكن له من المُلك شيء يومئذٍ، ولم يكن على رأس الدولة، بل سنة الله في غالب أنبيائه ورسله أن يجعلهم من غير الملوك؛ امتحانًا وابتلاءً، وليقوموا بالحق في وجه كل أحد لا يخافون في الله لومة لائم.

 وهذا فيه من العظة والقدوة للدعاة في كل زمان أن لا يكون هدف دعوتهم الملك والسلطان، بل يدعون إلى الله -عز وجل- ليهتدي الخلق إلى ربهم، وليقيموا الحجة على مَن أبى، وقد يؤتي الله الملك للأنبياء بعد ذلك، كما فعل -سبحانه- مع داود -عليه السلام-؛ فبعد جهاده وكونه جنديًّا في جيش طالوت مكَّنه الله مِن قتل جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة، فعند ذلك يكون الملك سببًا لمزيد من العبودية والدعوة والتمكين للدين، وليس للاستمتاع بزينة الحياة الدنيا وترفها، بل لإقامة الدِّين بالملك والسلطان بعد إقامته بالحجة والبيان.

الثالثة: أن الملك يكون غالبًا سببًا -في أكثر الأحيان- إلى الكبر والجبروت والعدوان، كما قال الله -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ)، قال ابن جرير: "يعني -تعالى ذكره- في قوله: (أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ) يعني: حاجَّه فخاصمه في ربه؛ لأن الله آتاه الملك" (انتهى من تفسير ابن جرير).

فقد ظن هذا الجاهل الضعيف أن الملك -الذي هو فيه- من عنده وبيده، وهو ليس كذلك، بل الله الذي آتاه إياه، وهو في يد الله -عز وجل-: (‌قُلِ ‌اللَّهُمَّ ‌مَالِكَ ‌الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ) (آل عمران:26-27).

ولو تأمل الملوك والأغنياء والملأ، والسادة والكبراء: أن ما هم فيه من الملك والغنى لم يصل إليهم إلا وقد زال عن غيرهم، ولن يكون معهم على الدوام؛ بل سيزول عنهم إلى غيرهم، كما حدث مع مَن قبلهم؛ لو تأملوا ذلك لما حصل لهم هذا الكبر الذي به هلاك الأمم والشعوب؛ فإن هلاك الأمم والشعوب بتجبر المترفين وإجرامهم وفسقهم وظلمهم، قال الله -تعالى-: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء:16)، وقال -تعالى-: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) (هود:116).

وعلى الدعاة إلى الله في دعوتهم الملوك والكبراء والأغنياء أن يستشعروا فقرهم وضعفهم؛ لا ملكهم وغناهم، وفي أثر وهب بن منبه -رحمه الله- قال الله -تعالى- لموسى -عليه السلام-: "انطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي، وإنك معك أيدي ونصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بطر نعمتي، وأمن مكري، وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي، وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني، فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي، لبطشت به بطشة جبار، يغضب لغضبه السماوات والأرض، والجبال والبحار، فإن أمرت السماء حصبته، وإن أمرت الأرض ابتلعته، وإن أمرت الجبال دمرته، وإن أمرت البحار غرقته، ولكنه هان علي وسقط من عيني، ووسعه حلمي، واستغنيت بما عندي، وحقي إني أنا الغني لا غني غيري، فبلِّغه رسالتي، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي، وذكره أيامي، وحذره نقمتي وبأسي، وأخبره أنه لا يقوم شيء لغضبي، وقل له فيما بين ذلك قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي، ليس ينطق ولا يطرف، ولا يتنفس إلا بإذني، وقل له: أجب ربك فإنه واسع المغفرة، وقد أمهلك أربعمائة سنة، في كلها أنت مبارزه بالمحاربة، تسبه وتتمثل به وتصد عباده عن سبيله، وهو يمطر عليك السماء، وينبت لك الأرض، ولم تسقم ولم تهرم، ولم تفتقر ولم تغلب، ولو شاء الله أن يعجل لك العقوبة لفعل، ولكنه ذو أناة وحلم عظيم.

وجاهده بنفسك وأخيك وأنتما تحتسبان بجهاده، فإني لو شئت أن آتيه بجنود لا قِبَل له بها لفعلت، ولكن ليعلم هذا العبد الضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجموعه أن الفئة القليلة -ولا قليل مني- تغلب الفئة الكثيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته، ولا ما متع به، ولا تمدا إلى ذلك أعينكما، فإنها زهرة الحياة الدنيا، وزينة المترفين.

ولو شئت أن أزينكما من الدنيا بزينة ليعلم فرعون حين ينظر إليها أن مقدرته تعجز عن مثل ما أوتيتما فعلت، ولكني أرغب بكما عن ذلك، وأزويه عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي، وقديمًا ما جرت عادتي في ذلك، فإني لأذودهم عن نعيمها وزخارفها، كما يذود الراعي الشفيق إبله عن مبارك الغِرَّة، وما ذاك لهوانهم علي، ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالمًا موفرًا لم تكلمه الدنيا (أي: لم تجرحه وتنقصه الدنيا).

واعلم أنه لا يتزين لي العباد بزينة هي أبلغ فيما عندي من الزهد في الدنيا، فإنها زينة المتقين، عليهم منها لباس يعرفون به من السكينة والخشوع، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود، أولئك أوليائي حقًا حقًا، فإذا لقيتهم فاخفض لهم جناحك، وذلل قلبك ولسانك، واعلم أنه مَن أهان لي وليًّا أو أخافه، فقد بارزني بالمحاربة، وبادأني وعرض لي نفسه ودعاني إليها، وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي؟! أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني؟! أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني؟! وكيف وأنا الثائر لهم في الدنيا والآخرة؟ لا أَكِل نصرتهم إلى غيري" (رواه ابن أبي حاتم).

فمَن ابتلاه الله بالملك والغنى والجاه؛ فليحذر على نفسه مِن الجبروت والكبر والطغيان؛ لأنه أسرع الأدواء والأمراض إليهم، لا ينجو منها إلا القليل، وَلْيُعْلَم أن مِن أعظم أسباب الجبروت قتل النفوس بغير حق، روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: "لا يكون الرجل جبارًا حتى يقتل نَفْسين"، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي عمران الجوني قال: "آية الجبابرة القتل بغير حق".

وللحديث بقية -إن شاء الله-.