ميراث النبوة

  • 49

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ ‌أَخَذَهُ ‌أَخَذَ ‌بِحَظٍّ ‌وَافِرٍ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

‏‏فلنتأمل في تركة ‏النبي -صلى الله عليه وسلم- التي ورثَّها للأمة، ‏‏والتي أجَّملها هذا الحديث، وسوف أن نفصلها كما يلي.

أولًا ‏الأدلة الإجمالية:

أكتفي هنا بالإشارة إلى المتفق عليه عند أهل السنة والجماعة: (القرآن - السنة - الإجماع - القياس)، والناس فيها بين غالٍ وجافٍ، ‏‏فلا سبيل في فهم دين الله وتعليمه للناس غضًّا طريًّا كما أنزل إلا بالقرب ‏‏من نور الوحي وصفاء النبع، فالقرآن كلام الله حقيقة لفظًا ومعنى، ‏المنزل على نبيه، المتحدي بأقصر سورة من سوره، وبقدر قربك من نور القرآن تصبح مصدرًا للنور.

إن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- مع مخالطتهم وسابق معرفتهم للحضارات المختلفة لم يلتفتوا لتلك الحضارات، وجعلها مصدرًا للتلقي؛ فضلًا عن الاقتصار عليها ورمي ما سواها بالبطلان!

وتأمل في حديث جابر بن عبد الله -وهو إن كان في سنده ضعف؛ إلا أنه صحيح المعنى-: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكُتُبِ، فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَغَضِبَ، وَقَالَ: (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي) (رواه أحمد، وحسنه الألباني).

وفيه عدة فوائد:

أولًا: أن عمر -رضي الله عنه- جاء بكتاب وافق ما عندنا؛ فلا طعن في ديننا ولا شبهة تلقى على الناس ليل نهار.

ثانيًا: عمر -رضي الله عنه- كان يعجب من تصديق كلام الله بعضه لبعض ما صح من التوراة موافقًا لما عندنا.

ثالثًا: الدلالة الواضحة على الاقتصار على علم الوحي في أمور الشريعة، وأن ما جاء به القرآن جامع وشامل لما قبله، وسمَّاه الله حياة ونورًا، وفرقانًا، ومبينًا، غاية في الوضوح، وإن كان وصفه بالحياة وحده يكفي.

المصدر الثاني: "السُنّة":

كلام المعصوم -صلى الله عليه وآله وسلم- ما مِن خيرٍ إلا ودلَّ الأمة عليه، وما من شر إلا وحذر منه، ففصَّل لنا ما أُجمل في القرآن، وليس هناك أحد من البشر مهما علا قدره في العلم إلا ويؤخذ من كلامه ويرد إلا رسول الله -صلى الله وعليه وآله وسلم-، فعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قال: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ: (اكْتُبْ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ) (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

إن اتفاق الفقهاء على منزلة السُنة وجعلها المصدر الثاني من مصادر التشريع والحرص على التفريق بين صحيحه وضعيفه، وفهم مقاصد الكلام سبيل لكلِّ مَن أراد أن يتفقه؛ فهلم هلم، اقصد البحر وخلِّ القنوات.

ومنزلة الفقهاء الأربعة أو الجمهور في الحرص على عدم مخالفة السُنة الصحيحة الصريحة أمر يحتاج للتدبر، وبين يديك بعض مقولات الأئمة الأربعة توضِّح ذلك:

1- الإمام أبو حنيفة -رحمه الله-:

- "إذا صحّ الحديث فهو مذهبي" (حاشية ابن عابدين).

- "إذا قلتُ قولًا يخالف كتاب الله -تعالى-ـ وخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فاتركوا قولي" (إيقاظ همم أولي الأبصار للعلامة الفلاني).

2- الإمام مالك بن أنس -رحمه الله-:

- "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه" (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر).

- "ليس أحدٌ بعد النبي -صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي -صلى الله عليه وسلم-"، (جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر).

3- الإمام الشافعي -رحمه الله-:

- "ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمهما قلتُ من قول أو أصَّلت من أصل فيه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو قولي" (تاريخ دمشق لابن عساكر).

- "إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقولوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودعوا ما قلت" (المجموع للنووي).

4- الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-:

- "لا تقلّدني، ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخُذ من حيث أخذوا" (إعلام الموقعين لابن القيم).

- "مَن ردَّ حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو على شفا هلكة" (المناقب لابن الجوزي).

وهذا الكلام النفيس يقع بين غلو وجفو، فهناك مَن يعرض عن النص الصريح والدليل الدامغ مقلدًا أقوال الرجال، ويهاب أن يخالف مذهبه مع قوة الدليل في الجهة المقابلة، وما أنفس الحق وأقله! وانظر إلى شيخ الشافعية ومحقق مذهبنا في قوله بالمذهب القديم في وقت صلاة المغرب؛ أن وقته في الجديد بمقدار ما يتوضأ ويستر العورة ويصلي خمس ركعات، فمَن فاته هذا الوقت فقد انتقل من الأداء للقضاء فيرجح المذهب القديم؛ لوجود نص قاطع الثبوت قاطع الدلالة في مسلم (وَقْتُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ ‌مَا ‌لَمْ ‌يَغِبِ ‌الشَّفَقُ).

وللنووي كلام نفيس في "المجموع" في الترجيح بين الأقوال داخل المذهب، قال -رحمه الله-: "فَإذا عُرِفَتْ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ تَعَيَّنَ القَوْلُ بِهِ جَزْمًا؛ لِأنَّ الشّافِعِيَّ نَصَّ عَلَيْهِ فِي القَدِيمِ، كَما نَقَلَهُ أبُو ثَوْرٍ، وعَلَّقَ الشّافِعِيُّ القَوْلَ بِهِ فِي الإمْلاءِ عَلى ثُبُوتِ الحَدِيثِ، وقَدْ ثَبَتَ الحَدِيثُ، بَلْ أحادِيثُ، والإمْلاءُ مِن كُتُبِ الشّافِعِيِّ الجَدِيدَةِ، فَيَكُونُ مَنصُوصًا عَلَيْهِ فِي القَدِيمِ والجَدِيدِ، وهَذا كُلُّهُ مَعَ القاعِدَةِ العامَّةِ الَّتِي أوْصى بِها الشّافِعِيُّ أنَّهُ إذا صَحَّ الحديث خِلافَ قَوْلِهِ، يُتْرَكُ قَوْلُهُ ويُعْمَلُ بِالحَدِيثِ، وأنَّ مَذْهَبَهُ ما صَحَّ فِيهِ الحَدِيثُ، وقَدْ صَحَّ الحَدِيثُ ولا مُعارِضَ لَهُ، ولَمْ يَتْرُكْهُ الشّافِعِيُّ إلّا لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ؛ ولِهَذا عَلَّقَ القَوْلَ بِهِ فِي الإمْلاءِ عَلى ثُبُوتِ الحَدِيثِ. وبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ" (المجموع للنووي).

ثالثًا: المصدر الثالث والرابع: "الإجماع والقياس":

إن ميراث النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتصِر على القرآن والسنة، بل العلوم المستمدة والمعينة على فهم الوحي من جملة هذا الميراث، والإعراض عن ترك هذا الميراث وأعني به علم أصول الفقه؛ بحجة أنه لا حاجة إليه، ويكفينا الاقتصار على القرآن والسنة، وكأن أصول الفقه لا علاقة لها بالقرآن والسنة رغم أن لب الأصول وجوهرها هو مبحث دلالات الألفاظ، وتفسير النصوص، فلو قسمت الأصول إلى أربعة مباحث، وإن كان المبحث الأول ليس منها حقيقة، ولكن لا بد منه، وهو: مبحث الحكم، ثم المبحث الثاني وهو: الأدلة الشرعية المتفق عليها، والتي منها: الإجماع والقياس، والمختلف فيها: كعمل أهل المدينة، وغيره؛ تجد المبحث الثالث الذي هو لب الأصول وجوهرها: "دلالات الألفاظ وتفسير النصوص"، ثم المبحث الرابع: حال المستفيد المجتهد وشروطه؛ فكيف يستغنَى عن علم فهم النصوص التي هي مصدر الحكم وعليها المدار بحجة أنه من جملة علم الكلام ولا حاجة لنا فيه؟!

وعلى النقيض: مَن ترك فهم مصادر الوحي: "القرآن والسنة"، وانغمس حتى قرنه في علم الكلام، وابتعد هوينًا هوينًا عن لب الأصول وفهم مراد الله ومراد نبيه؛ فهذا الرجل مثله كمثل رجل ذهب ليشتري حصانًا فأبهره السرج وأذهب بريقه عن النظر إلى جودة الحصان وأصالته! والموفَّق مَن وفَّقه الله.

فالأول: "مَن رفع شعار الاستغناء عن كل العلوم إلا القرآن والسنة"، نقول له: هذا حق يُراد به باطل؛ فكيف تفهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، وأنت لا تدرك لغة العرب؛ فضلًا عن قواعد أهل العلم في فهم النصوص؟! فهذا ترك الإجماع والقياس بحجة الاقتصار على القرآن والسنة، فإذا ذكرت له إجماعًا قاطعًا في مسألة طالب بدليل، ولعل المسكين يدري أو لا يدري يريد نصًّا مخصوصًا في كل مسألة.

نعم الإجماع ليس حجة بذاته، ولكن ما دام أن هناك إجماعًا مستوفيًا لشروطه، فثم دليل في المسألة علمه من علمه وجهله من جهله، فهذا حظه من ميراث النبوة قليل، وإن تشدق وتقعر فترك فهم النصوص والقواعد بحجة أنها ليست قرآنا ولا سنة، وفي تركه هذا نصف الميراث، ثم جاء إلى القرآن فلم يفهم مراد الله في كلامه لضعف آلته بهجره ما سبق، وفي السنة لم يميز بين صحيحها وضعيفها، وناسخها ومنسوخها، وما أطلقه القرآن وقيدته السنة، وما أجمله القرآن وفسرته السنة.

والثاني: "مَن رفع شعار في التقليد النجاة، ولو ملكت بعض آلة الاجتهاد، ولو تبيَّن لك الحق في غير مذهبك؛ فعليك بَلَي عنق النصوص، والتمسك بالمعتمد، وجعله الحق المطلق": وعكسه مَن يرى المعتمد شيطانًا يتخطفه، والحق أن المعتمد اجتهاد جرى على مدار قرون، وتلقَّاه أغلب علماء المذهب بالقبول، ولا يعني ذلك عصمته وحده، وما سواه باطل، فهذا دون أن يدري مِن أعظم مَن جَنى على المذهبية التي في نظري أفضل طريقة لدراسة الفقه وَفْق ما سبق. والله الموفق.