الدعاء (4) من سنن وآداب الدعاء

  • 205

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمِن سنن وآداب الدعاء: أن يتوافق الدعاء مع تعاليم الشريعة السمحة، فيجتنب الاعتداء في الدعاء: كأن يدعو بإثم أو قطيعة رحم، أو غير ذلك من صور الاعتداء في الدعاء، قال الله -تعالى-: (ادْعُوا رَبَّكُمْ ‌تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (الأعراف:55).

 قال ابن عطية -رحمه الله-: "الاعتداء في الدعاء على وجوه، والمعتدي هو مجاوز الحد ومرتكب الحظر، وقد يتفاضل بحسب ما اعتدى فيه" (تفسير ابن عطية).

وقد سمع عبد الله بن مغفل ابنه يقول: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْقَصْرَ الْأَبْيَضَ عَنْ يَمِينِ الْجَنَّةِ، إِذَا دَخَلْتُهَا، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّ سَلِ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَعُذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (سَيَكُونُ ‌قَوْمٌ ‌يَعْتَدُونَ ‌فِي ‌الدُّعَاءِ) (رواه أبو داود وابن ماجه، وصححه الألباني).

وقال ابن جرير -رحمه الله-: "إن ربكم لا يحب مَن اعتدى فتجاوز حدَّه الذي حدَّه لعباده في دعائه، ورفعه صوته فوق الحد الذي حد لهم في دعائهم، وفي غير ذلك من الأمور".

وقد جَرَت عادة بعض الناس "لا سيما في حالات الضيق والغضب" أنهم يدعون على أنفسهم، أو أولادهم، أو غيرهم، بهلاكهم أو بما يؤذيهم، وهذا مخالف لتعاليم شريعة الإسلام، ولهدي خير الأنام -صلى الله عليه وسلم- - قال الله -تعالى-: (‌وَيَدْعُ ‌الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا) (الإسراء:11).

قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "هو دعاء الرجل على نفسه وولده عند الضجر بما لا يحب أن يُستجَاب له بأن يقول: اللهم أهلكه ونحوه"

وقوله -تعالى-: (دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ) أي: كدعائه ربه أن يهب له العافية، فلو استجاب الله دعاءه على نفسه بالشر لهلك، ولكن مِن رحمة الله -عز وجل- أنه لا يستجيب له إذا دعا على نفسه أو أمواله أو أولاده في حال ضجره وغضبه، لطفًا منه ورحمةً؛ لأنه يعلم منه عدم القصد إلى إرادة ذلك؛ فلهذا لا يستجيب له في هذه الحال، ولو استجاب له كل ما دعاه به في ذلك لأهلكه، وفوق ذلك يتكرم الله عليه بالاستجابة له إذا دعا لنفسه أو لأمواله وأولاده بالخير والبركة والنَّماء، قال -تعالى-: (وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ ‌لَقُضِيَ ‌إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (يونس:11)؛ ولذلك نهانا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أن ندعو على أنفسنا أو أولادنا أو خدمنا فقال صلى الله عليه وسلم: (‌لَا ‌تَدْعُوا ‌عَلَى ‌أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللهِ سَاعَةً يُسْأَلُ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبُ لَكُمْ) (رواه مسلم).

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَا مِنْ رَجُلٍ يَدْعُو اللَّهَ بِدُعَاءٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِمَّا أَنْ يُعَجَّلَ فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا أَنْ يُدَّخَرَ لَهُ فِي الآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا، مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ أَوْ يَسْتَعْجِلْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ‌وَكَيْفَ ‌يَسْتَعْجِلُ؟ قَالَ: (يَقُولُ: دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي) (رواه الترمذي، وقال الألباني: صحيح دون قوله: "وَإِمَّا أَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ مِنْ ذُنُوبِهِ بِقَدْرِ مَا دَعَا")

فبيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الحديث: أنه لا ينبغي أنْ يَكونَ دُعاء المسلم فيه معصية وظلم، أو قَطيعة رَحِمٍ، بأنْ يكونَ الدُّعاءُ به هَجْرٌ لِقَرابتِه أو يَدْعو اللهَ -تعالى- بما فيه قَطيعةٌ لوالِدَيه وأرحامِه، وهو داخلٌ في عمومِ الإثمِ المذكورِ قبلَه، ولكنَّه خصَّصه بالذِّكْرِ تَنبيهًا على عِظَمِ إثمِ قطيعةِ الرَّحمِ، كما قال -تعالى-: (‌فَهَلْ ‌عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ . أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) (محمد:22-23)؛ فهو تخصيصٌ بعد تَعميمٍ؛ فلا يَنبَغي للمُسلِمِ أن يَدعُوَ بهذا النَّوعِ من الأدعيَةِ؛ لِما فيه مِن الاعتداءِ في الدُّعاءِ المنهيِّ عنه شرعًا، ولِما فيه القَطيعةِ والتَّباغُضِ والتَّدابرِ المنهيِّ عنها كذلك.

قوله -صلى الله عليه وسلم-: (أَوْ يَسْتَعْجِلْ)، سأل الصَّحابةُ النَّبيَّ -صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم- فقالوا: يا رسولَ اللهِ، وكيف يَستعجِلُ؟ فقال النَّبيُّ -صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم-: يقولُ: (يَقُولُ: دَعَوْتُ رَبِّي فَمَا اسْتَجَابَ لِي)، أي: سألتُ ربِّي مَرَّةً ودعَوتُه كثيرًا، فيَستَبْطِئُ الإجابةَ، وذلك من الاعتداء في الدعاء، وقد نهى الله عنه.

ومن أعظم أنواع الاعتداء في الدعاء: دعاء غير الله -عز وجل-، وهو شرك؛ لأن الدعاء عبادة، ولا يجوز صرفها لغير الله.

قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "من أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان: أن يدعو غير الله؛ فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يشرك به، وإن الشرك لظلم عظيم".

- ومِن الاعتداء في الدعاء: أن يدعو لمَن لا يجوز الدعاء له: كالدعاء للكافر الميت بالرحمة كما يفعل بعض الجهلة عند موت صاحب لهم من أهل الكتاب!

ولا خلاف بين العلماء في أنه لا يُدعى بالمغفرة والرحمة للكافر الذي مات على الكفر، قال النووي -رحمه الله-: الصلاة على الكافر والدعاء له بالمغفرة حرام بنص القرآن والإجماع" (المجموع).

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "فإن الاستغفار للكفار لا يجوز بالكتاب والسنَّة والإجماع" (مجموع الفتاوى).

أما الكافر الحي: فقال العلماء: يجوز الدعاء له بالمغفرة والرحمة، وليس معنى ذلك أن يرحمه الله وقد مات على كفره، وإنما يدعو له بما يكون سببًا في هدايته للإسلام، وذلك من باب قول الله -تعالى- على لسان إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ إِنَّهُنَّ ‌أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:36)، وقد دعا النبي -صلى الله عليه وسلم- لدوس، وكانوا على الكفر، فقال: (‌اللَّهُمَّ ‌اهْدِ ‌دَوْسًا ‌وَأْتِ ‌بِهِمْ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (اللهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (متفق عليه).

قال ابن القيم -رحمه الله-: "قال الله -عز وجل-: (‌وَمَنْ ‌عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (إبراهيم:36)، ولم يقل: "فإنك عزيز حكيم"؛ لأن المقام استعطاف وتعريض بالدعاء؛ أي: إن تغفر لهم وترحمهم بأن توفقهم للرجوع من الشرك إلى التوحيد، ومن المعصية إلى الطاعة، كما في الحديث: (اللهُمَّ اِغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ)" (مدارج السالكين).  

- ومِن الاعتداء في الدعاء: سؤال الله -عز وجل- ما يخالِف الشرع أو العقل: كأن يسأل الله أن يخلده في الدنيا ولا يبعثه يوم القيامة، أو ألا يعذب أحدًا من خلقه، أو ألا تقوم الساعة.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "كل سؤال يُنَاقِض حكمة الله، أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره، أو يتضمن خلاف ما أخبر به؛ فهو اعتداء لا يحبه الله، ولا يحب سائله" (بدائع الفوائد).

- ومِن الاعتداء في الدعاء: أن يعلِّق الدعاء على المشيئة، كأن يقول: اللهم اغفر لي إن شئت، وفي الحديث المتفق عليه: (لَا يَقُلْ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ ‌اغْفِرْ ‌لِي ‌إِنْ ‌شِئْتَ، ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إِنْ شِئْتَ، وَلْيَعْزِمِ مَسْأَلَتَهُ، إِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، لَا مُكْرِهَ لَهُ).

فاللهم ألهمنا الدعاء، وتقبله منا يا أكرم الأكرمين.

ولنا في الحديث بقية -إن قَدَّر الله لنا البقاء واللقاء-، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.