• الرئيسية
  • المقالات
  • السُّنَّة والرأي عند الأئمة الأربعة من خلال كتابات العلامة "أبو زهرة" وبراءة الإمام "أبو حنيفة" من معارضة السنة ‏برأيه (2)‏

السُّنَّة والرأي عند الأئمة الأربعة من خلال كتابات العلامة "أبو زهرة" وبراءة الإمام "أبو حنيفة" من معارضة السنة ‏برأيه (2)‏

  • 157

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تمهيد:

فقد لخَّصنا في المقالة السابقة رأيَ العلامة "محمد أبو زهرة" حول العوامل التي أدَّت لظهور ‏مدرستي: "الرأي" و"أصحاب الحديث".

وذكرنا أنه يُرجِع الخلاف بين مدرستي: "الرأي ‏والحديث" إلى عاملين رئيسيين: ‏

الأول: كيفية مواجهة الأحاديث المكذوبة والموضوعة، ودخول غير المؤهَّلين لحلبة رواية ‏الحديث، ومِن ثَمَّ رَأَى البعض أن يعمل بالأحاديث التي لا غبار عليها البتة، ويكمل هذا ‏بالرأي، والبعض رأى أن الحلَّ هو التمحيص في أحوال الرواة، وتمهيد القواعد التي يمكن بها ‏أن نطمئن أو لا نطمئن إلى صحة ما يُنْسَب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من أخبار. ‏

الثاني: إذا كانت النصوص محدودة، ووقائع الناس لا تنحصر؛ فهل يتصدَّى المجتهد لما ‏وقع مِن المسائل فقط تاركًا باقي المسائل المحتملة إلى أن تقع، أم أنه يجمل به إذا كانت عنده ‏آلة النظر أن يفرِّع المسائل لمَن بعده؟

ومِن ثَمَّ تصدَّى أصحاب الرأي لبحث مسائل أكثر مِن التي تصدَّى لها أصحاب ‏الحديث. ‏

ومِن ثَمَّ أيضًا؛ فقد ظَهَر أن نسبةً ملموسة منها مخالفة للنصوص بعد أن تم جَمْعُ السُّنة. ‏

وغني عن الذكر: أنه لولا التقليد الأعمى لتكاملت المدرستان، وتطابقت أصولهما ‏الكلية، وإن كان ولا بد أن تبقى مساحة من الاختلاف كتلك التي وَقَعَتْ لمَن كانوا في زمنٍ ‏واحدٍ، وخُوطِبوا بخطابٍ واحدٍ، واختلفوا في فهمه كما في حديث: (لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ ‏‏‌إِلَّا ‌فِي ‌بَنِي ‌قُرَيْظَةَ(متفق عليه). ‏

وذلك أن قواعدَ تمحيص الأخبار قد اكتملت، وأن السُّنة قد جُمِعَت، وأن أحوال ‏الناس قد تفرَّعت، ومعظم المسائل التي افترضها أصحاب الرأي صارت واقعًا، وقد استفاد ‏مالك ومِن بعده الشافعي -رحمها الله تعالى- مِن تصوير الإمام أبي حنيفة -رحمه الله- لتلك ‏المسائل، وإن كانا نَظَرا فيها مِن واقع ما وصل إليهما مِن أخبارٍ. ‏

وخلصنا مِن ذلك إلى: ‏

أن الإمام أبا حنيفة -رحمه الله- لم يكن يمثِّل مدرسة الرأي المذمومة، بل وإن مدرسة ‏الرأي المذموم فقهيًّا لا تتساوى بمدرسة الإعراض عن الشريعة، والطعن في أحكامها، وإن ‏كان منهم مَن يقود الآن مدرسة التلفيق بين الشريعة وبين الأطروحات الغربية!

كان هذا التمهيد والتوضيح مع عرضٍ موجزٍ لتصور "العلامة أبو زهرة" عن الموضوع. ‏

ونستعرض في هذه المقالة ملخص كلام العلامة "أبو زهرة" حول "السُّنة والرأي"، وهو ‏المبحث الذي تكرر في كتبه عن الأئمة الثلاثة: "أبي حنيفة، ومالك، والشافعي" معتبرًا أن ‏المدرستين التقتا عند الإمام الشافعي، وعلى نهجه سار الإمام أحمد، وإن كان هذا لا يَلْزَم ‏منه تطابق اجتهادات المجتهدين.

فإليك ملخص كلامه من كتاب: "الإمام أبو حنيفة":

‏1- حاجة الأمة للرأي ضرورية.

يقول الشهرستاني في "الملل والنحل": إن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا ‏يَقْبَل الحصر والعدد، ونعلم قطعًا أنه لم يَرِد في كلِّ حادثة نص، ولا يُتصور ذلك أيضًا.

‏والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى؛ عُلِم ‏قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجبا الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد.

ومِن أجل ذلك كان الصحابة بعد وفاة النبي أمام ‏حوادث لا تتناهى ولا تُحصَر، وبين أيديهم کتاب الله، والمعروف مِن سنة رسول الله، فلجئوا ‏إلى الكتاب يعرضون عليه ما جَدَّ مِن حوادث، فإن وجدوا حكمًا صريحًا حكموا به، وإن لم ‏يجدوا في الكتاب الحكم واضحًا اتجهوا إلى المأثور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ‏واستثاروا ذاكرات أصحابه؛ ليعلنوا حكم النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمثال قضاياهم، فإن ‏لم يكن بينهم مَن يحفظ حديثًا اجتهدوا بآرائهم، ومثلهم في ذلك مثل القاضي المقيَّد بنصوص ‏قانون إذا لم يجد في الناس ما يحكم به في قضية بين يديه، طبَّق ما يراه عدلًا وإنصافًا.

‏2- الصحابة والأئمة مِن بعدهم لم يلجئوا للرأي إلا إذا لم يجدوا النص:

هكذا كانوا يسيرون، يعرضون القضية على الكتاب ثم على السنة، وإلا فالرأي، ولقد جاء ‏في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك، ما ليس في ‏كتابٍ ولا سنةٍ، اعرف الأشباه والأمثال، وقِس الأمور عند ذلك".

‏3- اتفاق الصحابة على الاعتماد على الكتاب والسنة المعروفة إن وُجِدَث:

‏ أخذ الصحابة بالرأي، ولكن اختلفوا في مقدار أخذه، ففريق أكثر منه، وفريق أخذ به ‏قليلًا، وكان يغلب عليه التوقف إن لم يجد نصًّا من كتاب أو سنة متَّبعة. ‏

والحق في أمرهم -رضي الله عنهم- أنهم كانوا يتفقون في الاعتماد على الكتاب والسنة ‏المعروفة إن وجدث، فإن لم يجدوا سنة معروفة عندهم اتَّجه المشهورون من فقهائهم إلى الرأي. ‏

‏4- سبب تنوع المدارس الفقهية للصحابة:

كانت سنة عمر -رضي الله عنه- تقضي باحتجاز كبار الصحابة من قريش داخل ربوع الحجاز لا يعدوه ‏كبراؤهم، فلا يتجاوز الحرتين كبار المهاجرين والأنصار إلا بإذنٍ منه، وهو عليهم رقيب، فلما ‏قضى عمر، وخرجوا إلى الأقاليم، صار لكل طائفةٍ منهم مدرسة فقهية تروي عنه وتسلك ‏طريقه، فلما جاء عصر التابعين -وهم تلاميذ أولئك الفقهاء الذين بقوا في المدينة أو نزحوا ‏عنها- صار لكل مصر فقهاؤه، فتباعدت الأنظار بتباعد الأمصار واختلافها؛ إذ كل أخذ ‏بعرف إقليمه والمسائل التي ابتلي بها ذلك الإقليم، ثم هو قبل ذلك متبع طريقة الصحابي ‏الذي نزل بذلك الإقليم، وناقل لأحاديثه التي رواها وانتشرت بينهم عنه، فظهرت بسبب ‏ذلك ألوان مختلفة من الفكر الفقهي، وكل يتحرى فيما يفتي به أن يكون تحت ظلِّ الدين، ‏يستمد من القرآن الكريم والسنة النبوية. ‏

‏5- كيف واجهت كلُّ مدرسة ظاهرة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم التي ‏نهجتها الفِرَق المنحرفة؟

في هذا العصر لم تنقطع موجة الكذب على الرسول -صلوات الله وسلامه عليه-، وكان اتجاه ‏الفرق -للدفاع عن آرائها بالقول يجري على الألسنة أو الأقلام- سببًا في شيوع أحاديث ‏انتحلتها الفِرَق انتحالًا، ونشروها بين جمهور المسلمين!

كانت هذه الموجة من الكذب في عصر الاجتهاد وإنشاء المذاهب سببًا في أمرين: ‏

‏(أحدهما): اتجاه المحدثين إلى تمحيص الرواية الصادقة واستخراجها من بين الدخيل؛ ‏ليتميز الخبيث من الطيب، فدرسوا رواة الأحاديث وتعرفوا أحوالهم، وعرفوا الصادق من غير ‏الصادق، وجعلوهم في الصدق مراتب، ثم درسوا الأحاديث ووزنوها بالمعروف من هذا ‏الدين بالضرورة، والأحاديث المشهورة المستفيضة التي لا يُشك في صدقها، والقرآن الكريم، فإن ‏وجدوها متنافرة معها ردوها.

ثم اتجه الأعلام من الأئمة إلى تدوين الصحيح من الأحاديث، ‏فدوَّن مالك موطأه، وجمع سفيان بن عيينة كتاب الجوامع في السنن والآداب، وألَّف سفيان ‏الثوري الجامع الكبير في الفقه والأحاديث، وهكذا ... ‏

‏(ثانيهما): أن الفقهاء "أهل الرأي" أكثروا من الإفتاء بالرأي؛ خشية أن يقعوا في الكذب ‏على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ‏

‏6- أبو حنيفة -رحمه الله- بداية التقاء مدرستي: "الرأي والحديث"، وليس بداية الافتراق:

‏أما في آخر عصر أبي حنيفة -رحمه الله-: فقد أخذ الفريقان يتقاربان؛ وذلك لالتقاء الفريقين ‏واجتماعهما للمدارسة والمذاكرة، أو الجدل والمناظرة، وأكثرهم يريدون رفع منار الشريعة، ويرجون ‏لها وقارًا؛ ولأنه لما وجد التدوين في عصره أخذ كل فريق يقرأ على الآخر؛ ولأن كثرة ‏الحوادث وعدم تناهيها اضطرا أهل الحديث أن يخوضوا في الرأي، وتدوين الصحاح ‏وتمييزها، وسهولة تعرفها، واطلاع أهل الرأي على أكثر ما روي عن الصحابة عن النبي -صلى ‏الله عليه وسلم-، وتلقيهم لما رواه أهل البُلدان المختلفة من أحاديث وآثار، جعل بين أيديهم ‏طائفة كبيرة من الأحاديث، فتقاربوا بها مِن أهل الحديث.

‏7- تعظيم صاحبي أبي حنيفة للأثر:

فأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة وفقهاء الرأي، يُقبِل على دراسة الآثار وحفظها ‏والاستشهاد بها على ما انتهى إليه من آراء، فإن وجد رأيًا ارتآه مِن قَبْل يخالِف السُّنة عدل ‏عنه إلى الرأي الذي يتفق مع الحديث، ولقد قال فيه ابن جرير الطبري: وإنه كان يُعرَف ‏بحفظ الحديث، وإنه كان يحضر المحدث، فيحفظ خمسين أو ستين حديثًا، ثم يقوم فيمليها ‏على الناس.

ومحمد الصاحب الثاني لأبي حنيفة، يطلب الحديث ويأخذه عن الثوري، ثم يلازم مالكًا -‏رضي الله عنه- ثلاث سنوات، ويأخذ عنه، وهكذا نرى الشقة بين أهل الرأي وأهل ‏الحديث قد أخذت تضيق حتى تقاربا.

‏8- الالتقاء التام بين المدرستين على يد الشافعي:

فلما جاء دور الشافعي مِن بعد، كان هو الوسط الذي التقى فيه أهل الرأي وأهل ‏الحديث معًا، فلم يأخذ بمسلك أهل الحديث في قبولهم لكلِّ الأخبار ما لم يقم دليل على ‏كذبها، ولم يسلك مسلك أهل الرأي في توسيع نطاق الرأي، بل ضبط قواعده، وضيَّق ‏مسالكه، وعبَّدها وسهلها، وجعلها سائغة.

9- دور الإمام أحمد في الجمع بين السنة والرأي (هذه الفقرة من كتاب الإمام أحمد للشيخ ‏أبي زهرة أيضًا).

‏10- أصول الإمام أحمد الأثرية، مذهبه أيسر المذاهب في باب المعاملات ‏(هذه الفقرة من كتاب الإمام أحمد للشيخ أبي زهرة أيضًا).

‏11- القياس عند السلف هو نوع مِن تعظيم النص، لا نوع مِن مزاحمته ‏(عود إلى كتاب الإمام أبي حنيفة):

قد بيَّنَّا بإيجازٍ اختلاف فقهاء الرأي وفقهاء السنة، وإنما الرأي الذي كان يجري الكلام ‏حوله: أهو القياس الفقهي الذي هو إلحاق أمر غير منصوص على حكمه بأمرٍ آخر ‏منصوص على حكمه لاشتراكهما في علة الحكم؟ أم هو أعم من ذلك؟

إن المتَّبع لمعنى كلمة ‏الرأي في عصر الصحابة والتابعين يجدها عامة لا تختص بالقياس وحده، بل تشمله وتشمل ‏سواه، ثم إذا نزلنا إلى ابتداء تكوين المذاهب، نجد فيها هذا العموم أيضًا، ثم إذا توسطنا في ‏عصر المذاهب نجد كل مذهب يختلف في تفسير الرأي الجائز الأخذ به عن المذاهب ‏الأخرى. ‏

يفسِّر ابن القيم -رحمه الله- الرأي الذي أُثِر عن الصحابة والتابعين بأنه: ما يراه القلب بعد فكرٍ وتأملٍ، وطلب المعرفة ووجه الصواب مما تتعارف فيه الأمارات، وإن الراجع لفتاوى الصحابة ‏والتابعين، ومَن سلك مسالكهم، يفهم مِن معن? الرأي ما يشمل كل ما يفتي فيه الفقيه في ‏أمرٍ لا يجد فيه نصًّا، ويعتمد في فتواه على ما عُرِف مِن الدِّين بروحه العام، أو ما يتفق مع ‏أحكامه في جملتها في نظر المفتي، أو ما يكون مشابهًا لأمرٍ منصوص عليه فيها، فيلحق ‏الشبيه بشبهه، وعلى ذلك يكون الرأي شاملًا للقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، ‏والعرف.

وقد كان أبو حنيفة وأصحابه يأخذون بالقياس والاستحسان والعرف، ومالك وأصحابه ‏يأخذون بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ولقد اشتهر الأخذ بالمصالح المرسلة في ذلك ‏المذهب؛ ولذلك كانت فيه مرونة وقابلية لكل ما يَجِدُّ في شئون الناس في العصور المختلفة، ‏مع أنه مذهب قد قلَّل من القياس، ولم يأخذ به كثيرًا، وكذلك الاستحسان قد اتسع له ‏المذهب المالكي، حتى لقد قال فيه مالك: إنه تسعة أعشار العلم، ولكن ذلك كله إذا لم ‏يكن نصٌّ، ولا فتو? صحابي، ولا عمل لأهل المدينة. ‏

جاء الشافعي فوجد ذلك الاستدلال المرسل للأحكام من غير نصٍّ يعتمد عليه؛ فلم ‏يأخذ بذلك الاتجاه غير المقيَّد في استنباط الأحكام، ورأى أنه لا رأي في الشريعة إلا إذا كان ‏أساسه القياس، بأن يلحق الأمر غير المنصوص على حكمه بالأمر الآخر المنصوص على ‏حكمه، والرأي في هذا الحال حمل على النص، وليس بدعة في الشرع، أما الاستدلال ‏المطلق والتعليل المطلق للأحكام من غير البناء على العلة في الأمر المنصوص على حكمه؛ ‏فهو البدعة في الشرع؛ ولذلك قال: مَن استحسن فقد شرَّع.

ولقد وضع للقياس ضوابطه وموازينه، ودافع عنه وأيَّده" (انتهى).

وبهذا الاستعراض نرجو أن تكون الصورة قد اتَّضَحَتْ بأنه لا يجوز لأحدٍ أن يقدِّمَ رأيه على ‏الدليل، وعلى براءة الأئمة؛ لا سيما أبي حنيفة -رحمه الله-.