التقييم في العمل التطوعي... تقويم لا تحطيم!

  • 651

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فعلى مائدة مستديرة يجلس مجموعة من المدراء لتقييم أحد الأعمال، ليتطرق الأمر لتقييم أحد "الأفراد"، وبدأ كل مدير يدلي برأيه في ذلك "الفرد"؛ قال أحدهم: إن ذلك "الفرد" بطيء في التنفيذ، ليرد عليه آخر: ولا ينجز إلا نصف مهامه، ليرد ثالث: وتجاوز مرات التغيُّب أيضًا!

وتعالت الأصوات للمطالبة بفصله، ليقطع هذا الصخب صوت مدير رابع: -موجهًا حديثه لمديره المباشر-: حسنًا ... هل نوفِّر له الموارد اللازمة؟

رد مديره بعد تلعثم: حقيقة نمر بضائقةٍ ماليةٍ، ولا يتقاضى سوى ٢٠٪؜ من الموارد المطلوبة!

وهنا هدأت حِدَّة الغضب تجاه ذلك "الفرد".

ثم أضاف الرابع: فهل يتقاضى بدل انتقال حيث أعلم أن مهامه تستلزم السفر من محافظة لأخرى؟ لتكون الإجابة أيضًا: لا!

فأضاف الرابع: فهل لك معه اجتماع ثابت يتلقى منك تكليفات واضحة، وتسأله عن تكليفاته السابقة؟ لتكون الإجابة أيضًا: كمثيلاتها لا! ليتوجه النقاش بعد ذلك نحو كيفية مساعدة هذا الفرد على النجاح في أداء مهامه، وتذليل العقبات أمامه.

أهمية التقييم:

وتكمن أهمية تقييم الأفراد في مؤسسات العمل الطوعي وغيره: في أنه من بديهيات تطوير الأعمال، فكلما تحسَّن أداء الأفراد تحسَّن العمل، والتقييم هو الوقوف بدقةٍ على حقيقة أداء الأفراد فيما أسند لهم من أعمال، فكل تقييم يتبعه تقويم أو تكريم؛ تقويم للمقصِّر بمحاولة تأهيله وتدريبه، وربما نقله من وظيفة لأخرى، وتكريم للمحسن بترقيته وتشجيعه، وحسن الثناء على جهده.

وسائل التقييم:

للتقييم وسائل عدة، منها:

- المقارنة بين المهام التي كُلِّف بها، وبين ما تم إنجازه منها.

- ‏ جودة ما أنجزه من مهام ومدى إتقانه في عمله.

- سرعة إنجاز ما كُلِّف به من مهام.

- حسن استغلال الموارد دون إسرافٍ.

- مدى انسجامه في فريق عمله، وليونته في يد إخوانه.

- طواعيته لمديره المباشر، واحترامه للتسلسل الإداري.

- مدى قدرته على تكوين فريق عمل وإدارته في تنفيذ المهام، وتوريث ما اكتسبه من خبراتٍ لفريق عمله، وقدرته على ترقية فريق عمله ليصبحوا قادرين على قيادة العمل التطوعي.

- ما يقدِّمه من أفكار واقتراحات لتحسين وتطوير العمل.

- حسن خلقه مع أفراد مؤسسته، ومساهمته في إيجاد بيئة إيجابية ومحفزة للعمل.

- مدى إيمانه وتشبعه، وحفاظه على مبادئ مؤسسته.

أخطاء تقع في التقييم:

غير أن هناك العديد من الأخطاء التي قد تعتري عملية التقييم، والتي تعيق التقييم العادل المنصف فتجرِّد عملية التقييم من فائدتها؛ لأن عملية التقييم تهدف للوقوف الصادق على مستوى الفرد للانتفاع بكفاءته في العمل، أو وضع روشتة حقيقية لعلاج ما به من نقاط قصور.

مِن هذه الأخطاء:

‏- التقييم على غير معيار: فالتقييم في جوهره هو عملية مقارنة بين الواقع والمستهدف؛ لذلك ينبغي أن يكون هذا المستهدف واقعيًّا وواضحًا، ويمكن قياسه، فغياب المعيار في التقييم يجعل التقييم عملية غير دقيقة، متأثرة بعوامل الضعف البشري مِن: نسيان وذهول، وخطأ، واختلاف في الرؤية والتقدير.

- التقييم بالموقف: فالتقييم بالموقف الواحد، أو التكليف الواحد والمهمة الواحدة يعد من أخطاء التقييم، فقد يكون الفرد أحسن دهرًا ثم اعتراه ما يعتري البشر من فتورٍ وكسلٍ ونسيانٍ، فلا ينبغي أن يقيَّم الفرد بالموقف الواحد، وقد حذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- النساء مِن تقييم الزوج بالموقف الواحد، فقد يكون الزوج أحسن لزوجته الدهر ثم يسيء مرة فتقول له من أجل موقفٍ واحدٍ: "ما رأيت منك خيرًا قط".

‏وتجدر الإشارة إلى أن يحتمل لمَن قدَّم للمؤسسة مجهودات كبيرة، وساهم في إنشاء فروعها ونشر أفكارها ومبادئها، وتفعيل دورها في خدمة المجتمع، ما لا يُحتمل لغيره.

- التقييم بدرجة القرب والمحبة: فقد يخلط بعض المسئولين بين محبته لفردٍ مِن فريق عمله وبين إحسان ذلك الفرد في عمله، وأسوأ من ذلك هو: أن يكون معيار التقييم هو مدح الفرد لمسئوله.

- التقييم بالهوى: فيكون مَن يقوم بالتقييم ممَّن إذا رضيَ مدح، وإن سخط ذمَّ!

- الإطلاق في التقييم: فتسمع كلمات، مثل: "فلان لا يصلح"، أو "فلان يتبنى مبادئ غير مبادئ المؤسسة"، أو "فلان لا أمل في إصلاحه"، وهي إطلاقات تحبط وتؤخر، لا تعالج وتبني، خاصة عندما تسير بها الركبان، وتنطلق بها الألسن، فربما نقلت مثل هذه الإطلاقات الأفراد من خانة العامل المقصر إلى خانة العامل الممتنع عن العمل، وربما المعادي للعمل، وعلى كلِّ حال لن تعدم في مسلم خيرًا ونفعًا.

- التقييم الفردي: فمن أخطاء التقييم أن يكون التقييم فرديًّا حتى لو كان من مسئول الفرد المباشر؛ لأن الفرد قد ينسى ويغفل ويتسرع؛ لذلك ينبغي أن يكون التقييم يتم من خلال مشاركة عددٍ مِن الأفراد ليصوب بعضهم رأي بعض.

‏ - تقييم المتشبع بروح المنافسة والمتخوف مِن تميُّز مَن دونه في العمل: فالتقييم ينبغي أن يكون ممَّن عُلِم عنه إنصافه ورغبته في تطوير العمل، لا المنشغل بمعارك صغيرة على قارعة طريق العمل التطوعي.

‏- التقييم المتأثر بثناء الأفراد على أنفسهم والمبالغة فيما يقومون بإنجازه: وكذلك التقييم بناء على تقارير غير حقيقية عن الأعمال، مثل: تضخيم ما أنجز، وإخفاء جوانب التقصير.

أن يتم نشر نتيجة التقييم في دوائر لا تنتفع به، ولا تملك قرارًا للتقويم أو التكريم: حتى لو كان التقييم صحيحًا ومنصفًا، وتم وَفْق معايير عادلة، فالتقييم لا ينبغي أن يتجاوز دائرة مَن قام بعملية التقييم، ودائرة القائمين على عمليات التكريم أو التقويم.

نحو تقييم ناجح:

- ‏التقييم الناجح هو: التقييم الذي تم وَفْق معايير تتم دراستها بعناية.

- ‏التقييم الناجح هو: التقييم الذي يساهم فيه فريق عمل، ولا ينفرد به فردٌ.

- ‏التقييم الناجح هو: الذي لا يتم من خلال تقييم الفرد في مهمة واحدة، بل من خلال مجموع ما كلِّف به من مهامٍ.

- ‏التقييم الناجح هو: الذي يتم من خلال مدراء مسئولين، ومؤهَّلين لعملية التقييم، ويستطيعون الفصل بين تداخلات العلاقات الشخصية وبين معيارية التقييم، ولم يعلم عنهم روح المنافسة أو الدخول في معارك صغيرة مع فرق العمل أو اللدادة في الخصومة.

- ‏التقييم الناجح هو: التقييم الذي يساهم في رفع مستوى الأفراد، وترقية المُحْسِن، وتنمية مهارات المقصِّر، لا التقييم الذي يعقبه التشهير بالمقصر أو الإقصاء والإبعاد.

تنبيهات حول عملية التقييم:

اختلاف المعايير من حيث القوة والأثر:

- ليست كل المعايير على نفس درجة الأهمية، فهناك معايير تُجبَر بغيرها، وهناك معايير إن غابت جعلتِ التقييمَ سلبيًّا بدرجةٍ كبيرةٍ، فمثلًا: لا يجوز أن تصدِّر للمجتمع في العمل التطوعي مَن عنده انحراف سلوكي، فهو سيتعامل مع شرائح ضعيفة مِن المجتمع، مثل: المرأة، والطفل؛ فغياب الانضباط السلوكي هنا يعني الاستبعاد مِن العمل.

- ‏بعض المتطوعين يهمل في رفع التقارير خوفًا من الرياء، وأنه بذلك يطلب مدح الناس، ورفع التقارير مهم للتطوير من العمل، والصحيح أن يعالج الإنسان نيته في رفع التقارير كما عالجها أثناء التنفيذ، فالتقارير مهمة في تقييم الأفراد والأعمال على حدٍّ سواء.

- ينبغي أن يعلم الفرد بنتيجة تقييمه بالطريقة التي تدفعه للعمل سواء كان محسنًا أو مقصرًا، فالغرض من التقييم هو تطوير وتحسين الأعمال، وصدق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌نِعْمَ ‌الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ) (متفق عليه).

- ‏وليس عليك إذا أردتَ تقويض عملٍ ما أو مؤسسة ما؛ إلا أن تقيم الأفراد تقييمًا فرديًّا متعجلًا من خلال موقفٍ واحدٍ، ثم تنطلق تحدِّث به في كلِّ مكانٍ لمَن تفيده معرفة التقييم ومَن لا تفيده، لتكون النتيجة أن تتحول بيئة العمل من بيئة تساعد على الإنجاز لبيئة منفِّرة ومحبطة، تحيطها روح التشكك وضعف الثقة.

- ‏إن العمل التطوعي هو عمل مِن أجلِّ وأسمى الأعمال يقتطع فيه العامل من وقته وجهده وماله، ابتغاء ما عند الله -سبحانه وتعالى-، ولخدمة مجتمعه، وتقديم يد العون لمَن يحتاجها، وتعليم الجاهل وإغاثة الملهوف، وإصلاح ذات البين، رغم كثرة الشواغل وصعوبة الظروف المعيشية، فحري على القائمين على الأعمال التطوعية استحضار ذلك المعنى، والعمل على توفير بيئة صالحة يجد فيها المتطوع دفء العلاقات وعدالة التقييم، وزيادة الخبرات والتعاون على البرِّ والتقوى.