مصطلح الإسلام السياسي (1)

  • 116

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فلم يظهر هذا المصطلح قبل عام 1924م، فقد كانت الخلافة الإسلامية -على ضعفها وبعض الانحراف فيها وقتئذٍ- مِن أهم مظاهر وحدة المسلمين السياسية.

ولم تحقق المنظمات الدولية التي قامت على أنقاضها: كالجامعة العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي "التعاون الإسلامي" حاليًا، هذه الوحدة السياسية المأمولة.

أما السياسة الشرعية فهي: جزء أصيل مِن الفقه الإسلامي، ومِن أقدم مَن ألف فيها الإمام أبو يوسف (113: 182هـ)، وكتابه: "الخراج" عبارة عن رسالة أرسلها لهارون الرشيد، وقد بدأها بنصيحة شاملة في شئون السياسة، وغيرها.

ومِن أشهر المؤلفات في السياسة الشرعية: كتاب: "الأحكام السُلطانية والولايات الدينية" للقاضي الماوردي، وكتاب: "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية" لشيخ الإسلام ابن تيمية، و"مقدمة ابن خلدون".

وقد اصطُلِح على تقسيم الشريعة إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

- الأحكام العقائدية.

- الأحكام التهذيبية.

- الأحكام العملية "الفقه".

وأن الفقه يشتمل على:

- العبادات.

- المعاملات.

- أحكام الأسرة.

- السياسة الشرعية.

فالسياسة الشرعية التي تُعد نوعًا مِن أنواع الفقه الإسلامي، الذي هو قسم من أقسام الشريعة الإسلامية، عرَّفها البعض بالأحكام التي تُنظِّم الدولة، وعلاقتها بالأفراد، وعلاقتها بغيرها من الدول.

ويرى البعض أنها أعم مِن ذلك.

وسوف أسرد بعض الآيات التي توضِّح أن مَن يدعو لفصل الإسلام عن السياسة، كمَن يدعو لفصل الروح عن الجسد:

- قال الله -تعالى-: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّـهُ) (المائدة:49).

- وقال -تعالى-: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) (النساء:65).

- وقال -تعالى-: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب: 36).

- وقال -تعالى-: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ) (البقرة:216).

- وقال -تعالى-: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّـهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9).

- وقال -تعالى-: (‌وَأَمْرُهُمْ ‌شُورَى ‌بَيْنَهُمْ) (الشورى:38).

- وقال -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) (آل عمران:159).

- وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى) (البقرة:178)، وسائر آيات الحدود.

- وقال -تعالى-: (إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا) (النساء:90).

- وقال -تعالى-: (إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4).

- وقال -تعالى-: (وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ) (الأنفال:61)، وسائر آيات العقود بين المسلمين، وغيرهم.

- وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (المائدة:1).

- وقال -تعالى-: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد:4)

- وقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13).

هذه الآيات -وهي غيض مِن فيض- تتحدث عن الحكم، والقتال، والشورى، والقِصاص، والمواثيق والحياد، والمعاهدات، والسلام، والوفاء بالعقود، ومعاملة الأسرى، والعلاقات الدولية، وقد جاءت -في معظمها- مُجملة وعامة ومُطلقة، لم تتعرض لتفصيلاتٍ وجزئيات المسائل؛ لإعطاء مرونة وصلاحية لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، دون الخروج عن أحكامها؛ فكيف نفصل بينها وبين السياسة؟!

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (‌كَانَتْ ‌بَنُو ‌إِسْرَائِيلَ ‌تَسُوسُهُمُ ‌الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) (متفق عليه).

فقد قام النبي -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة والسياسة معًا، ومن ذلك:

- بناء دولة المدينة.

- المصالحة الوطنية بين الأنصار "الأوس والخزرج"، ثم الوحدة مع المهاجرين.

- إرساء الشورى.

- قيادة الجيوش، وبعث السرايا.

- إبرام المواثيق ومعاهدات الصلح والتحالف.

- تعيين القضاة.

- بعث المفاوضين.

- مخاطبة الملوك والزعماء.

- إرسال السفراء.

- تعيين الولاة، إلخ.

بيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مارس السياسة بأخلاق الإسلام "السياسة الشرعية"، (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:5).

وقد سار على هذا النهج الخلفاء الراشدون فمَن بعدهم، إلى أن ظهرت دعوى فصل الإسلام عن السياسة بعد سقوط الدولة العثمانية.

وقد روى الترمذي بسندٍ حسنٍ صحيحٍ عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- مرفوعًا: (فإنه مَنْ يَعِشْ منكم بعدي فسَيَرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتِي، وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِييْنَ مِنْ بَعْدِي) (رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصححه الألباني).

ويكفي أن نعلم: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يُدفن بعد موته حتى اتَّفق المسلمون على تولية الخليفة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- في سقيفة بني ساعدة.

إن دعوى فَصْل الإسلام عن السياسة في الأساس هدف استعماري، وثمرة مِن ثمرات التغريب الفكري للمسلمين؛ رغم أن الإسلام لا يعرف الدولة الدينية "الثيوقراطية" في المفهوم الغربي.

وقد روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ)، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ: ‌آلْيَهُودَ ‌وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (‌فَمَنْ) (متفق عليه).

فتبيَّن مما سبق: أن السياسة الشرعية مِن صُلب الدِّين، وأن مصطلح الإسلام السياسي خاطئ، والغرض منه: مجرد خدمة فكرة الفصل بين الدين والدولة.

مع التنبيه على أن استغلال الدِّين عن طريق لي عُنق النصوص لتأييد موقف شخص أو جماعة هو أمر مذموم، وطريقة غير مقبولة؛ لا دينيًّا ولا سياسيًّا، بل هو تحريف للدين ذاته؛ إذ إن الجميعَ في الإسلام حتى رأس الدولة من مَلِك أو خليفة أو رئيس، مخاطبون بالدِّين؛ أصوله وفروعه، وأن يكونوا للشريعة الغراء تبعًا، لا أن يخرجوا عنها أو يستغلونها لنوال مكاسب ضيقةٍ أو تأييد موقفٍ سياسيٍ.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.