الفساد (112) الحصاد المر لـ(125) سنة سينما (3)

  • 103

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فلا يكتمل الحكم على الأفلام السينمائية المختلفة، ومشروعية إنتاجها والعمل فيها، والتكسب منها أو توزيعها والترويج لها، ومشاهدتها، إلا بالحكم على ما قد تتضمنه ويدخل فيها من أفعالٍ تعدُّ جزءًا من هذه الأفلام، ولها حكمها الخاص في الشرع الذي يدخل حكمه في حكم إنتاج الفيلم أو مشاهدته، ولو -على الأقل- في الجزء الذي ارتبطت به، وقد تُمنع الأفلام السينمائية إنتاجًا ومشاهدة بالكلية إذا كثرت فيها هذه الأمور الداخلة فيها مما يحرِّمه الشرع، وتباح إذا كانت هذه الأمور مما يبيحه الشرع، مع مراعاة ما يقرره الشرع لها -إن وجدت- من شروط وضوابط.

وقد أشرنا مِن قبل إلى ما يتعلق بحكم التمثيل، وبحكم التصوير السينمائي، ونستكمل الكلام عما يلحق بهما من أعمال قد تكون في بعض الأفلام، ومنها: الموسيقى بأنواعها، والغناء بأنواعه، والرقص أيضًا بأنواعه.

السينما والموسيقى:

ارتبطت السينما في الغرب بالموسيقى منذ نشأتها، فعندما كانت الأفلام السينمائية صامتة كان يصحب الأفلام معزوفات البيانو، وتكون متنوعة بحسب أحداث الفيلم، فتارة رتيبة ثابتة، وتارة رومانسية هائمة، وتارة مثيرة متوترة.

ومع ظهور السينما الناطقة صار يصحب بعض أحداث الفيلم موسيقى ومؤثرات صوتية تعبِّر عن -أو تعمِّق- الأحاسيس والمشاعر المرتبطة ببعض مواقف الفيلم؛ هذا إلى جانب الموسيقى التصويرية المميزة لبداية كل فيلم، والتي تصحب عرض بيانات الفيلم وأسماء المشاركين فيه؛ ولهذه الموسيقى متخصصون صارت لموسيقاهم شهرة عالمية بين الناس، وتعد علامة مميزة لهذه الأفلام ومرتبطة بها تذكر بذكرها، وكذلك الحال في موسيقى المسلسلات الإذاعية والتليفزيونية.  

وكلمة (موسيقى) لفظ يوناني وليس عربيًّا، مشتق من (موسا) ومعناها: الملهمة، وأضيف إليها حرفي: (قي)، ليطلق على فنون العزف على آلات الطرب. وكلمة الموسيقى مشابهة في اللغة العربية لكلمة المعازف.

ويُقاَل للاعب بالمعازف: عازف. (انظر: "حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية: دراسة فقهية موازنة" رسالة ماجيستير، تأليف صالح بن أحمد الغزالي - ط. دار الوطن - الرياض – ط. أولى 1417 هجري، ص 161).

(والعزف والموسيقى عند أهل الفن: عبارة عن أصوات متقطعة موزونة، تحدث بواسطة آلات صنعت من الجمادات؛ سواء كانت بالقرع أو النفخ أو العزف عليها، ولها لذة عند سماعها).

ووصفت هذه الأصوات بأنها موزونة؛ للتفريق بينها وبين الضوضاء والأصوات العشوائية، وتحدث هذه الأصوات بواسطة آلات العزف، منها ما يحدث عند هز هذه الآلات، ومنها ما يحدثه القرع عليها، ومنها ما يصدر بحك الواحدة منها على أخرى، ومنها ما يحدث عند النفخ فيها.

وآلات العزف منها آلات وترية "تستخدم فيها الأوتار في إحداث الصوت"، يندرج تحتها: العود والقانون والرباب والقيثار ونحوها.

ومنها: آلات هوائية يخرج منها الصوت بالنفخ فيها، ويندرج تحتها: المزمار والبوق والناي، ونحوها.

ومنها: آلات تحدث الأصوات بطريقة الإيقاع أو الضرب والنقر عليها، وهي على نوعين:

الأول منهما: ذات رق، ويكون النقر فيها على جلد رقيق مشدود على إطار أو صندوق صوتي، ومنها: الدفوف والطبول والكوبة بأنواعها.

والثاني: المصوتة لذاتها، وهي التي تستعمل بضرب بعضها ببعض، ومنها: الأجراس والكاسات والصنوج (انظر في ذلك المصدر السابق، ص 163-164).

حكم المعازف:

يدخل في حكم المعازف: جميع الآلات التي يُعزَف عليها، ولم يُستثنَ منها في الحكم الشرعي إلا الدف بشروطه التي سنذكرها.

وجماهير العلماء على تحريم المعازف إلا الدف بشروطه، وهو مذهب الحنفية، والراجح من مذهب المالكية، وإليه ذهب الشافعية والحنابلة.

وقد نفى الخلاف في حرمتها كثيرٌ مِن أهل العلم، ونقل ابن حجر الهيتمي الإجماع على حرمة المعازف، وقال: "ومَن حكى فيها خلافًا فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه!" (كف الرعاع للهيتمي، ص 124).

ونُقِل القول بإباحتها وإباحة سماعها عن بعض من السلف على تفصيل بين بعضهم فيها، والقول بإباحة المعازف مذهب ابن حزم الظاهري (انظر المحلى: 9/ 55 وما بعدها، ونيل الأوطار للشوكاني 8/ 264- 266).

وقد تولَّى العديدُ من المحققين الرد على شبهات ابن حزم في إباحة الغناء، وطعنوا في صحة نقل إباحة المعازف عن الصحابة والتابعين (انظر المصدر السابق، ص 166، 167- 186).

قال مؤلف (حكم ممارسة الفن، ص 187) في ترجيح المسألة ما مختصره: (يترجح القول بتحريم المعازف؛ لصحة أدلة التحريم، وسلامتها من الاعتراض، بخلاف أدلة الإباحة؛ فإنها ساقطة بالطعون الموجَّهة إليها. ويشمل تحريمها: تحريم الأمور التالية؛ لعموم نصوص التحريم، وعدم وجود الدليل المخصص لنوعٍ دون نوعٍ، وحال دون حالٍ:  

1 - جميع أنواعها القديمة والحديثة؛ باستثناء الدف.

2- الآلات ذات الأصوات الهادئة أو الصاخبة؛ التصويرية أو الحماسية أو غيرها.

3 - سماع الرجال والنساء لها.

4- سماعها منفردة أو مقرونة بغيرها كالغناء.

5- سماعها مباشرة أو بواسطة أجهزة تسجيل).

وأضاف أيضًا: (ويصح القول بأن المعازف من المسائل المجمع على تحريمها) (انظر المصدر السابق، ص 188).

حكم الدف:

والدف: هو الغربال أو الطار المعروف، وهو إطار خشبي يغطَّى بالجلد من جهةٍ واحدةٍ، وقد اتفق الفقهاء على إباحة الضرب به على الصفة التي رخص بها النص الشرعي، وتتضمن:

1 - أن يكون الضرب بالدف في العرس خاصة.

2 - أن يكون الدف من غير جلاجل.

3 - أن يكون الضرب بالدف للنساء دون الرجال.

واختلف الفقهاء في حكم الدفوف ذات الجلاجل، والجلاجل: صراصر من نحاس أو غيره توضع في خروق تفتح لها في جوانب الدف، على قولين: لعل المنع أقربهما؛ لكون الدف الذي فيه جلاجل محدثًا بعد عصر النبي -صلى الله عليه وسلم-، فتُقصر الرخصة -لأنها استثناء لا يقاس عليه- على الدف بدون جلاجل تقييدًا بما كان معروفًا في عصره -صلى الله عليه وسلم-، لا يزاد عليه؛ خاصة وأن تأثير الدفوف ذات الجلاجل أشد منها بدونها.

واختلف في ضرب الرجال للدف على قولين، ولعل أقربهما: أن ضرب الدف خاص بالنساء الجواري مع إباحة سماع الرجال له؛ إذ لم يُؤْثَر عن أحدٍ مِن السلف الضرب به.

واختلف في ضرب الدف في غير العرس في المواضع التي فيها إظهار السرور، مثل: الأعياد، وقدوم الغائب، على أقوالٍ ما بين المنع في غير العرس وإباحته مطلقًا، والتفصيل في صور الإباحة (راجع المصدر السابق، ص 190- 200).

السينما والغناء:

المقصود من الغناء: الغناء المجرد في كتب الفقه، وهو: رفع الصوت بالكلام الملحَّن -شعرًا كان أو نثرًا- على وجه التطريب، فالغناء تلحين الأشعار الموزونة، ويكون بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة، يوقع كل صوت منها توقيعًا عند قطعة فيكون نغمة، ثم تؤلف تلك النغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة، فيلذ سماعها لأجل ذلك التناسب، وما يحدث عنه من الكيفية في تلك الأصوات.

ومما هو متفق عليه بين الفقهاء حرمة الغناء بالكلمات المحرَّمة في الشرع، أو الغناء المصاحب لآلة عزف، والغناء بالألحان المائعة الماجنة التي تدعو إلى الفتنة وتثير الشهوة، والغناء الذي يقصد به أمر محرم، واستماع الرجل لغناء المرأة، واستماع المرأة لغناء الرجل. والغالب: أن أغاني الأفلام السينمائية داخلة في صور هذا الغناء المتَّفَق على تحريمه.

قال صاحب (حكم ممارسة الفن) ما مختصره: (يحرم الغناء في المواضع التي دَلَّ النص على أو الإجماع على تحريمه فيها، وهذه المواضع هي:

الموضع الأول: إذا قصد من الغناء أمر محرم.

الموضع الثاني: إذا اقترن بالغناء أمر محرم في مجلس الغناء.

الموضع الثالث: الغناء الفاحش الذي يدعو إلى معصية؛ سواء كان ذلك الفحش في ألحان الغناء، أو مقصده، أو كلماته.

الموضع الرابع: إذا اشتمل الغناء على كلماتٍ مخالفةٍ للشرع، مثل: الغزل الفاحش، والهجاء المحرم.

الموضع الخامس: إذا أدَّى استماع الغناء إلى ترك واجب أو فعل محرم.

الموضع السادس: احتراف الغناء والاشتغال به في كلِّ حينٍ ووقتٍ، وعند أهل العلم ترد به الشهادة) (المصدر السابق، ص 115- 116).

الغناء المباح:

يباح الغناء في المواضع التي جاء النص بإباحته فيها، وبالقدر الذي وردت الرخصة به.

قال صاحب (حكم ممارسة الفن) ما مفاده: (أما المواضع التي ورد النص بإباحة الغناء فيها؛ فهي أربعة مواضع، وهي:

1- في يوم العيد: كما جاء في حديث عائشة -رضي الله عنها- قال: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ، تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ‌أَمَزَامِيرُ ‌الشَّيْطَانِ ‌فِي ‌بَيْتِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا(متفق عليه).

2- في العرس: كما جاء في حديث ابن عباس وجابر -رضي الله عنهم-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة -رضي الله عنها-: (فَهَلْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا بِجَارِيَةٍ تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي؟(رواه ابن ماجه والطبراني في الأوسط، وحسنه الألباني)، وحديث محمد بن حاطب: (فَصْلُ ‌مَا ‌بَيْنَ ‌الْحَلَالِ ‌وَالْحَرَامِ ‌الدُّفُّ ‌وَالصَّوْتُ فِي النِّكَاحِ(رواه النسائي، وحسنه الألباني).

3 - حين قدوم الغائب، كما جاء في حديث الجارية التي نذرت أن تضرب بالدف إن رأت النبي -صلى الله عليه وسلم- سالمًا من إحدى الغزوات، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (أَوْفِي ‌بِنَذْرِكِ(رواه أبو داود، وقال الألباني: حسن صحيح).

4- في الختان: كما صح عن عائشة وعمر -رضي الله الله عنهما- الرخصة بذلك، وذلك في حكم المرفوع.

والغناء في هذه المواضع مقيَّد بالصفة التي وردت الرخصة بها كما جاءت في النصوص، وذلك بالقيود التالية:

1- أن يكون الغناء في هذه المناسبات دون غيرها من الأوقات، وقد ورد في النصوص المبيحة للغناء ذِكْر العيد والعرس، وقدوم الغائب، والختان؛ لفائدة تقييد الإباحة بها دون غيرها.

2- أن يقتصر في ألحانه على الترجيع والتطريب اليسيرين، دون ترجيع وتطريب أهل الغناء والمجون المشتمل على التكسر والتهييج، ويؤخذ هذا القيد من قول عائشة -رضي الله عنها-: "وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ ... وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ".

3- أن تشتمل كلمات الغناء على اللهو المباح، لا المحرم، كنحو ما جاء في الحديث: "‌أَتَيْنَاكُمْ ‌أَتَيْنَاكُمْ فَحَيَّانَا وَحَيَّاكُمْ" (رواه ابن ماجه، وضعفه الألباني).

ويخرج بهذا القيد كلمات الفحش والتشبيب بصفات المرأة المعينة والتغني بها.

4- أن لا تشتمل كلماته على معنى مخالف للشرع.

5- أن يقتصر على الغناء دون غيره من الآلات، فإن جميع الأحاديث الواردة في إباحة الغناء في هذه المواضع لم يذكر فيها سوى الغناء والدف.

6 - أن لا يكون الغناء مقترنًا بمحرَّم، نحو الاختلاط أو وجود الخمر في مجلس الغناء، وفي الحديث عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- مرفوعًا: (لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ ‌يَسْتَحِلُّونَ ‌الْحِرَ ‌وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ(رواه البخاري معلقًا بصيغة الجزم، فله حكم الاتصال، وروي بأسانيد أخرى متصلة صحيحة عند غير البخاري) (راجع في ذلك المصدر السابق: 116– 118).

السينما والرقص:

ارتبط الرقص بالكثير من الأفلام، رقصًا فرديًّا أو جماعيًّا، شرقيًّا أو غربيًّا، من نساء أو رجال، وهو دائمًا مصحوب بالموسيقى يصحبه الغناء أو بدونه، وغالبًا تؤديه راقصة محترفة من الراقصات، ممثلة كانت أو غير ممثلة، كما أن العديد من الممثلات من غير المحترفات للرقص قمن بالرقص في بعض المشاهد في العديد من أفلامهن ترويجًا لها.

والرقص في السينما الغرض منه: جذب المشاهدين؛ ففيه تكسر وخلاعة، وغالبًا يكون من نساء شبه عاريات أو يرتدين ما يكشف مع الرقص مفاتنهن؛ بالإضافة أن كثيرًا مِن الرقص يكون مصورًا لوصلات الرقص التي تقام في البارات والنوادي الليلية، والفنادق السياحية، حتى صار مَن لا يرتاد هذه الأماكن على دراية بكلِّ ما فيها من كثرة مشاهدتها والاطلاع عليها في الأفلام السينمائية.

حكم الرقص:

أصل الرقص في اللغة من الارتفاع والانخفاض. وعند الفقهاء: (هو مجرد حركات على استقامة واعوجاج بترتيب خاص)، ويؤتى بها على سبيل اللعب والترفيه واللهو؛ فهذا هو المراد عند الكلام على مجرد الرقص، والحركة ضد السكون، فيدخل في الحركة المشي والاهتزاز.

ويخرج من تعريف الرقص ما قد يقترن به من الموسيقى والعزف، فهي ليست من الحركة، ولكن الموسيقى والغناء أمر خارج عن الرقص له حكمه الخاص به كما بيَّنَّا. والمراد بالحركة المستقيمة: الحركة التي لا اعوجاج فيها أو تثني. والمراد بالترتيب الخاص: الحركة الموزونة التي يقصد منها الرقص، فيخرج بهذا القيد المشي والحركة غير الموزونة، وتسمَّى اضطرابًا (انظر في ذلك: المصدر السابق، ص 207).

ويخرج من حكم الرقص الرقص إذا كان على وجه محرم: كالخلاعة والتكسر والتغنج، أو اقترن بمحرم كالموسيقى والغناء، واستعمال آلات العزف، أو كشف العورات والمفاتن؛ فهذا الرقص غير جائز باتفاق الفقهاء لحرمة ما اقترن به من أمور محرمة، والتحريم هنا ليس لذات الرقص، ولكن لغيره مما اختلط به.

والرقص معروف من قديم الزمان، وهو على ضربين: الأول منه: الرقص الديني كما كانت تفعل القبائل الوثنية في طقوسها وشعائرها إرضاءً لآلهتهم التي يعبدونها! (ويعد الرقص الديني من شعائر الجاهلية التي جاء الإسلام بهدمها والقضاء على مظاهرها)، ومثله: صور الرقص الفرعوني القديم، والرقص الإغريقي واليوناني. والثاني منه: الرقص الدنيوي، وهو الرقص المعروف.

واختلف العلماء في حكم الرقص الدنيوي المجرد على ثلاثة أقوال:

الأول: تحريم الرقص، وإليه ذهب الحنفية وبعض الشافعية والحنابلة.

الثاني: كراهة إتيان الرقص، وهو مذهب الشافعية وجمهور الحنابلة.

الثالث: الإباحة، على تفصيل عند بعضهم، فمنهم مَن أباحه مطلقًا، ومنهم مَن أباحه في الأعياد والمناسبات السارة، ومنهم مَن قيَّده بعدم الإكثار منه وإلا حرم، ومنهم مَن أباحه للعوام وكرهه لذوي المناصب (انظر في ذلك: المصدر السابق، ص 244).

وعمدة أدلة القول بمشروعية الرقص المجرد عند القائلين به: حديث عروة بن الزبير عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كَانَ يَوْمَ عِيدٍ يَلْعَبُ السُّودَانُ بِالدَّرَقِ وَالْحِرَابِ، فَإِمَّا سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَإِمَّا قَالَ: (تَشْتَهِينَ تَنْظُرِينَ؟)، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَأَقَامَنِي وَرَاءَهُ، خَدِّي عَلَى خَدِّهِ، وَهُوَ يَقُولُ: (دُونَكُمْ ‌يَا ‌بَنِي ‌أَرْفِدَةَ) حَتَّى إِذَا مَلِلْتُ، قَالَ: (حَسْبُكِ؟) قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: (فَاذْهَبِي(متفق عليه).

وجاء في بعض طرق الحديث عند مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ‌بَيْنَمَا ‌الْحَبَشَةُ ‌يَلْعَبُونَ ‌عِنْدَ ‌رَسُولِ ‌اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحِرَابِهِمْ، إِذْ دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَأَهْوَى إِلَى الْحَصْبَاءِ يَحْصِبُهُمْ بِهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (دَعْهُمْ يَا عُمَرُ(متفق عليه)، وفي رواية أخرى زيادة: (لِتَعْلَمَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّ ‌فِي ‌دِينِنَا ‌فُسْحَةً(رواه أحمد، وصححه الألباني). والحديث لا يصح الاستدلال به على إباحة الرقص في كل الوقت، ففي الحديث أنه في يوم عيد فيقيَّد به، ولا يصح الاستدلال به على جواز الرقص بهيئة محرمة: كالخلاعة والتكسر، أو أن يشتمل على أمرٍ محرمٍ/ كآلات العزف، واختلاط الرجال بالنساء، وتلامس الأبدان والأيدي، ففي الحديث: أن الرقص كان على هيئة اللعب بالحراب.

وقد ذكر صاحب (حكم ممارسة الفن) شروط إباحة الرقص، ومنها: (أن يقتصر الرقص المجرد على المواضع التي أباح الشرع فيها إظهار السرور دون غيرها من الأوقات، وهي الأعياد والأعراس وقدوم الغائب. فالرقص يعد من الترويح المسموح به فيقتصر على الرخصة فيما وردت فيه، وعدم التوسع فيه أو القياس عليه، فيخرج بهذا القيد: الرقص في غير مناسبة، والإكثار من الرقص أو اتخاذه عادة في كل وقت وحين. ويخرج بهذا القيد: الرقص في المناسبات المحرمة البدعية والفسقية)، و(أن يقتصر الرقص على هيئة مباحة، فيخرج بهذا القيد الرقص على الهيئات التي يحرمها الشرع: كهيئة التكسر وهيئة إثارة الغرائز الجنسية لغير الزوج)، وأن يخلو الرقص من الاقتران بالأمور المحرمة التي عادة ما يقترن بها الرقص من غناء محرم، وآلات لهو، واختلاط، وكشف عورة ومفاتن، وأن يكون الرقص موافقًا لمقاصد الشرع من اللهو البريء، وأن لا يكون الرقص سببًا في ترك واجب أو فعل محرم) (انظر المصدر السابق، 262-265).

ثم ذكر صاحب (حكم ممارسة الفن) الصور التي يحرم فيها الرقص، وذكر فيها صورًا من الرقص الدنيوي المحرم هي شائعة في أفلامنا، ومنها:

- إذا كان الرقص مرتبطًا بالمناسبات المحرمة، كالرقص في المناسبات الشركية أو البدعية أو الفسقية، ومن أمثلة الرقص في المناسبات الفسقية: الرقص في الحفلات المختلطة بين الرجال والنساء.

ومن أنواع الرقص في المناسبات البدعية كعيد المولد النبوي، ومن أنواع الرقص في المناسبات الشركية الرقص في حفلات الزار التي يتقرب بها إلى الجن.

- إذا كان الرقص على هيئة التكسر.

- الرقص الذي يحصل منه ضرر على الراقص، ومن ذلك: الرقص فوق الحبال والأماكن العالية كما في السيرك، أو يكون الضرر بسبب حمل السلاح واللعب به على وجه يعرض إلى الضرر، كحمل السلاح الناري وإطلاقه، والضرب بالعصا على وجه الإضرار بالخصم، أما مجرد حمل السلاح واللعب به على وجه لا يخشى منه الضرر فمباح، وكذلك الضرر بسبب مراقصة الحيوانات المؤذية كمراقصة الثيران الهائجة، أو بعض الحيوانات المفترسة.

- الرقص الشهواني الذي يثير بحركاته الغرائز الجنسية، فإنه يعد من أعظم الوسائل التي تدعو إلى الفاحشة؛ سواء كان ذلك بالنظر إلى جسم الراقصة وحركاتها مباشرة أو عن طريق الصورة.

ويحصل إثارة الغرائز في هذا الرقص غالبًا من جهات ثلاث:

- من جهة الصورة: وهي صورة الراقصة المحرمة، وإبداء عورتها سواء المغلظة (السوأتين) أو غير المغلظة.

- من جهة الحركة: وتكون بتحريك الراقصة لبعض أجزاء جسدها على صورة مثيرة للغرائز الشهوانية، ومن ذلك التلوي والتكسر وتحريك الوسط، والصدر، وهز البطن.

من جهة الصوت: وهو ما يصاحب الرقص من غناء وألحان، وكلمات أو موسيقى ماجنة تثير الغرائز، وغالب صور الرقص في العصر الحديث من الرقص الشهواني الذي يُقصَد به إثارة الغرائز الحيوانية المحرمة.

الرقص المختلط، وله صور عدة، منها:

الرقص الجماعي: وهو أن يرقص مجموعة من الرجال مع مجموعة من النساء؛ إما أن يكونوا مختلطين يراقص بعضهم بعضًا، أو يكون الرجال في صف والنساء في صف آخر ينظر بعضهم إلى الآخر، أو يكونوا في صف واحد رجل وامرأة، رجل وامرأة، يمسك بعضهم بزمام بعض.

الرقص الثنائي: أن يراقص رجل امرأة أجنبية أو زوجته برؤية الآخرين.

الرقص الانفرادي: أن يرقص رجل أو امرأة، وهناك مَن ينظر إليهما مِن الأجانب.

وقد يقترن هذا النوع من الرقص بملامسة المرأة عند الرقص معها، وما قد يتبع ذلك من الضم أو التقبيل، وهذا يعد من الدياثة بالنسبة لولي المرأة الراقصة الراضي بذلك أو المقر له!

- الرقص الذي يحصل به تشبه الرجل بالمرأة أو تشبه المرأة بالرجل، وضابط التشبه هنا أمران:

الأول: العرف، كأن يعتاد مجتمع ما على رقصاتٍ معينةٍ يرقصها الرجال دون النساء أو النساء دون الرجال، ولكل نوع قواعد وأسماء خاصة به.

الثاني: طبيعة حركات الرقص وهيئاته، فللرجال حركات تناسب طبيعتهم من الخشونة والقوة كالوثب العالي وحمل السلاح الثقيل واللعب به، ففعل ذلك من المرأة يعد تشبهًا بالرجل، وهناك حركات تناسب طبيعة النساء من الليونة والتمايل، ففعل الرجل ذلك يعد تشبها بالمرأة.

- الرقصات التي اشتهر بها الفسقة دون غيرهم، فإنها لا تخلو من محرم شرعي عادة، كما أن مجرد التشبه بهم منهي عنه في نفسه ولو لم يقترن بمحرم.

- الرقص الذي يكون سببه غير مشروع، ومحركه أمر غير مباح، ومن صوره الرقص سرورًا بفعل معصية أو الحصول على لذة محرمة.

- الرقص المشتمل على كشف العورة المحرم كشفها من الرجل أو المرأة، ويشمل: أن يلبس الراقص ما يكشف شيئًا من عورته، أو يكشف الراقص أثناء الرقص عن شيء من عورته.

- أن يتخذ الرقص وسيلة لتهذيب النفوس وتغذية الأرواح، وركن من أركان التأديب، فإن الرقص من وسائل اللهو واللعب والترويح، ولم يكن الرقص من وسائل التهذيب والتأديب عند المسلمين المتبعين للشرع، وإنما هو مِن شيم الأوروبيين الذين بدَّلوا دينهم النصراني ثم نبذوه وراء ظهورهم، وبحثوا عما يعالجوا به خواء أرواحهم، فالتمسوه في الغناء والموسيقى، والرقص ونحوه، واتبعهم في ذلك المستغربون وأهل الفن الذين يرون بزعمهم أن هذه الفنون للتهذيب والرقي، لا للعب والترويح.

- إذا ما أدَّى الرقص إلى ترك واجب أو فعل محرم فيحرم بذلك، كغيره من أمور اللعب التي تكون في أصلها مباحة فتحرم إن صدت عن سبيل الله -تعالى- (للاستزادة راجع المصدر السابق، ص 265-282).