الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (40) قصة إحياء الطيور (2)

  • 80

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -تعالى-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

قال ابن جرير -رحمه الله-: "يعني -تعالى ذكره- بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: (رَبِّ أَرِنِي)، وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ) على قوله: (أَوْ كَالذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ) وقوله: (أَلَمْ تَرَ إِلى الذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)؛ لأن قوله: (أَلَمْ تَرَ) ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتَذكُر، فهو وإن كان لفظه لفظ الرؤية فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه.

واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموت؛ فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباع والطير، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلًا بما أخبر أنه أمره به.

عن قتادة: ذُكر لنا أن خليل الله إبراهيم -صلى الله عليه وسلم- أتى على دابة توزعتها الدواب والسباع، فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

عن الضحاك قال: مرَّ إبراهيم على دابةٍ مَيْتٍ قد بلي وتقسمته الرياح والسباع، فقام ينظر، فقال: سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادر على ذلك، فذلك قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى).

عن ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بيْنا هو يسير على الطريق، إذ هو بجيفة حمار، عليها السباع والطير قد تمزعت لحمها وبقي عظامها، فلما ذهبت السباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب ثم قال: ربِّ قد علمتُ لَتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير، (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، ولكن ليس الخبر كالمعاينة.

عن ابن زيد، قال: مرَّ إبراهيم بحوت نصفه في البر، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البر فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: يا إبراهيم متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب (أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)".  

(قلتُ: ورغم أن هذه الآثار لم تصح مرفوعة للنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا أن فيها فائدة عظيمة توافِق ما وَرَد في الكتاب والسنة مِن تأمُّل معنى الموت والحياة؛ لنتذكر كيف يجمع الله -عز وجل- الخلائق بعد تمزقهم، والتفكير في ذلك مما يزيد الإيمان، ويقوي العقيدة، ويشرح الصدر، ويهون على الإنسان مصائب الدنيا، فهذه هي الطريقة التي عليها الرُّسُل في التفكير فيما يرونه من أحداثٍ في الكون أمام أعينهم، وإرشاد عباد الله المؤمنين للتفكير الصحيح لمثل هذا المنظر العجيب، وليس مجرد التفكه بالغرائب والعجائب -كما هي عادة الغربيين في مثل هذه الأشياء-؛ بل المؤمنون يتفكرون في الموت والحياة، والقدرة على البعث، ويأخذون من ذلك الحذر من الجزاء والحساب يوم القيامة).

قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربه ذلك، المناظرة والمحاجة التي جَرَت بينه وبين نمرود في ذلك.

عن محمد بن إسحاق قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في سورة الأنبياء، قال نمرود -فيما يذكرون- لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: أنا أحيي وأميت. فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ ثم ذكر ما قصَّ الله من مُحاجته إياه. (أي: من إحضاره رجلين قتل أحدهما وأطلق الآخر!)، قال: فقال إبراهيم عند ذلك: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) من غير شكٍّ في الله -تعالى ذكره- ولا في قدرته، ولكنه أحب أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه، فقال: (لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه. وهذان القولان -أعني: الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى كانت ليرى عيانًا ما كان عنده مِن علم ذلك خبرًا.

وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلًا، فسأل ربه أن يريه عاجلًا من العلامة له على ذلك؛ ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلًا، ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيدًا.

وعن السدي قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلًا سأل ملكُ الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشِّر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره، وكان إبراهيم أغير الناس إن خرج أغلق الباب؛ فلما جاء وجد في داره رجلًا، فثار إليه ليأخذه، قال: مَن أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت، قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشرك بأن الله قد اتخذك خليلًا، فحمد الله، وقال: يا ملك الموت أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاس الكفار، قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأَعْرِضْ! فأَعْرَضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهب النار؛ فغُشي على إبراهيم، ثم أفاق وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين! قال: فأَعْرِضْ! فأَعْرَضَ إبراهيم ثم التفت، فإذا هو برجل شاب أحسن الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت لو لم يكن للمؤمن عند ربه من قرة العين والكرامة إلا صورتك هذه لكان يكفيه.

فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى) حتى أعلم أني خليلك، (قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن) بأني خليلك؟ يقول: تُصَدِّق، (قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بِخُلُولتك. عن سعيد بن جبير: (وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: بالخُلة".

(قلتُ: هذا القول مِن الأخبار الإسرائيلية خلاف ظاهر القرآن، وظاهر ما صَحَّ في السُّنَّة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قوله: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ) (متفق عليه)، فهو يدل على تفسير الآية على ظاهرها بأنه سؤال المعاينة ونفي الشك عنه، وليس أن ذلك في التصديق بالخُلة أو عدم التصديق بها، فإن هذا خلاف ظاهر الكتاب والسنة).

قال ابن جرير -رحمه الله-: "وقال آخرون: قال ذلك لربه؛ لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى.

عن أيوب قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرجى عندي منها.

عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعَدَ عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا، قال: ونحن يومئذٍ شبيبة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ ‌أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (الزمر: 53)، حتى ختم الآية، فقال ابن عباس: أما إن كنت تقول إنها، وإن أرجى منها لهذه الأمة قول إبراهيم -صلى الله عليه وسلم-: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).  

عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس، فقال: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى) (البقرة:260)، (قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) (البقرة:260)، لِيُرِيَهُ.

وعن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ ‌لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" (انتهى من تفسير ابن جرير الطبري).

قلتُ: هذا الذي ذكر ابن جرير -رحمه الله- أنه قول لبعض السلف أنه سأل ربَّه شاكًا ليس في لفظ مَن نقل عنهم هذا على الإطلاق؛ فلم يقل أحدٌ منهم: إن إبراهيم شكَّ في قدرة الله على إحياء الموتى، وإنما الآثار التي ذكرها عمَّن ذكرها، إنما هي في وقوع شيء من الوسوسة والسؤال، وهذا ليس بشك؛ فالشك هو استواء الطرفين -كما تقدم-.

وقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إنها أرجى آية" يدل على المعنى الذي ذكرنا؛ ليس أنه يشك، وإنما يقع في قلبه بعض الخواطر، وهذه الخواطر لا يؤاخَذ بها الناس؛ فكيف يذكر ابن جرير أن قول البعض: إن إبراهيم شك في قدرة الله؟! هذا قول باطل، وليس في كلام السلف أبدًا ما يدل على ذلك.

والحديث الصحيح الصريح: "(نَحْنُ أحَقُّ بالشَّكِّ مِن إبْراهِيمَ، إذْ قالَ: (رَبِّ أرِنِي كيفَ تُحْيِي المَوْتى قالَ أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)" الذي ذكره، يدل على أنه لم يشك؛ إذ أنتم توقنون أني لم أشك فأيقنوا أن إبراهيم لم يشك؛ لأني أولى بالشك من إبراهيم لو حدث ذلك، وإنما هي خواطر؛ ولذلك قد قال الله -عز وجل-: (أوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ولَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) والشك منافٍ للإيمان، أما الوسوسة والخواطر فإنها لا تنافي الإيمان الواجب، فضلًا عن أن تكون نقصًا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد قال لمَن سألوه عن أشياء يجدونها في أنفسهم، فقالوا له: إِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ -وفي رواية لأحمد وابن حبان: إِنَّا لَنَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا أَشْيَاءَ مَا نُحِبُّ أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَا، وَإِنَّ لَنَا مَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ ‌الشَّمْسُ-، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: (وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: (‌ذَاكَ ‌صَرِيحُ ‌الْإِيمَانِ) (رواه مسلم)، فكيف يُنسَب إلى إبراهيم -عليه السلام- الشك؟! هذا مما لا يجوز، ولا هو قول أحدٍ مِن السَّلَف -رضوان الله تعالى عليهم-، وإنما ذكروا الخواطر، والخواطر لا يُعصَم منها الأنبياء.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.