اترك أثرًا (4)

  • 59

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

اترك أثرًا ولو كنت بعيدًا عن أعين الخلق، فإن عملك للخالق لن يضيع.

قال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: يَا بُنَيَّ إِذَا كُنْتَ فِي الْبَرَارِيِّ، فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالْأَذَانِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: (‌لَا ‌يَسْمَعُهُ ‌جِنٌّ ‌وَلَا ‌إِنْسٌ، وَلَا حَجَرٌ وَلَا شَيْءٌ يَسْمَعُهُ؛ إِلَّا شَهِدَ لَهُ) (رواه أحمد وابن ماجه، وصححه الألباني).

وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ لَهُ ‌خِبْءٌ ‌مِنْ ‌عَمَلٍ ‌صَالِحٍ فَلْيَفْعَلْ) (أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد، وصححه الألباني).

فلا تكن صِفرًا، واصنع لنفسك خندقًا.

وإذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة                     فـإن فــســاد الـرأي أن تـتـرددا

والمقصود أن تحول أقوالك إلى أفعال، وتستخرج كل طاقاتك الكامنة في العمل وترك الأثر، فإن استشعار حجم التحديات والخطر يستخرج من طاقاتك ما لا تتخيله من نفسك، وتخيل أن الإمام أحمد لما استشعر أهمية حفظ السُّنة وخطر ضياعها مشى في طلب العلم 30 ألف ميل، وأما بقي بن مخلد فرحل إلى مصر والشام والحجاز والعراق على قدميه من غير دابة.

أتدري أين يسكن بقي بن مخلد؟!

إنه يسكن في الأندلس، وأتى إلى العراق لطلب العلم والحديث من الإمام أحمد، وقال
"لقد زرعتُ في الأندلس زرعًا لن يُخلع إلا بخروج الدجال!".

حقًّا إنها همم تناطح السحاب!

أخي الحبيب ... اصنع الأثر:

ومن لوازم ذلك: الإخلاص والصدق، والصبر والاحتساب، وإنشاء الأوقاف (‌سَبْعٌ ‌يَجْرِي ‌لِلْعَبْدِ أَجْرَهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَنْ عَلَّمَ عِلْماً أَوْ أَجْرَى نَهْراً أوْ حَفَرَ بِئْراً أوْ غَرَسَ نَخْلاً أَوْ بَنَى مَسْجِداً أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفاً أَوْ تَرَكَ وَلَداً يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ) (رواه البزار، وحسنه الألباني)، ومن أفضل الأثر: (تعليم الخلق - تكسب المعدوم - خطبة - درس - رحلة تربوية - دعوة إلى الله - خيركم من تعلم القرآن وعلمه).

وانتبه جدًّا؛ فلا يسبقك أحد إلى تعليم ابنك وأبناء المسلمين لفاتحة الكتاب، وقصار السور، والصلاة والوضوء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ‌حَتَّى ‌النَّمْلَةَ ‌فِي ‌جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى معلم النَّاس الْخَيْر) (رواه الترمذي، وصححه الألباني).

أخي الحبيب:

إن الكلمة قد تترك أثرًا؛ خاصة لو كانت بالتشجيع والتوجيه الإيجابي، قال إسحاق بن راهويه لطلابه -ومنهم البخاري-: "لو أن أحدكم انبرى إلى أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم-، فجمع سنن النبي -صلى الله عليه وسلم-"، قال البخاري: "فوقع ذلك في قلبي"، وظل 22 عامًا يجمع صحيح السنة، ولكنه أصبح الإمام البخاري، وصار كتابه أصح الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-.

أخي الحبيب:

بادر إلى فعل الخيرات، وكن صاحب حجر الأساس، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ ‌سَنَّ ‌فِي ‌الْإِسْلَامِ ‌سُنَّةً ‌حَسَنَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) (رواه مسلم).

واجعل مجال تميزك هو محور تركيزك، فحدد مجالات تميزك، وجدد وطوِّر، فمكانك ليس في الحُش، ولكنه هناك على قمم المعالي.

وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.