الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (46) قصة إحياء الطيور الأربعة (8)

  • 97

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

الفائدة الرابعة:

ذكرنا في الفائدة الثالثة: أن أصلَ الإيمان هو ما قال الله -عز وجل-: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ) (محمد:19)، فإذا لم يعلم الإنسان أن لا إله إلا الله فليس بمؤمن، بل هو كافر حتى ولو لم يكن معذبًا؛ لأنه معذور بعدم بلوغ دعوة رسول مِن الرسل، وأما إذا علم أن لا إله إلا الله فإن أصل الإيمان عنده إذا نطق مع ذلك الشهادتين، حتى ولو لم يعلم أن محمدًا رسول الله، ولم يعلم أن جبريل مَلَك من ملائكة الله، ولم يعلم أن القرآن أنزله الله؛ فهذا ليس بكافر، بل هو مؤمن بإيمانه بلا إله إلا الله.

فأما إذا بلغه بعد ذلك أن محمدًا رسول الله فأبى، أو بلغه أن موسى رسول الله فأبى، أو بلغه أن جبريل مَلَك من الملائكة فكذب بذلك، وأن جبريل ينزل بالوحي فكذب بذلك، أو بلغه القرآن أو آية منه فكذب به = فهو كافر، ونقض بذلك لا إله الله، لكن كل ذلك لم يصبح شرطًا أو -بالأصح- ركنًا من أركان الإيمان إلا عندما بلغه هذا الأمر، فليس شرطًا ابتداءً، بل لا يكون شرطًا إلا بعد بلوغه الإنسان، بخلاف شهادة أن لا إله إلا الله التي بُعِث بها كلُّ الرُّسُل ودعوا إليها، فإذا لم تبلغ الإنسان لم يكن مؤمنًا، وإذا لم توجد في قلبه: "لا إله إلا الله"؛ لم يكن مؤمنًا، حتى إن كان غير معذَّبٍ.

ومَن بلغته وآمن بها، وإن لم يبلغه شيء آخر مِن الدِّين، ولا آمن بشيء آخر؛ لأنه لا يعرف غير لا إله إلا الله = فهو مؤمن ناجٍ عند الله، غير مكلَّف بما لم يبلغه، كما في حديث صِلَة عن حذيفة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (يَدْرُسُ الإسلامُ كما يَدْرُسُ وَشْيُ الثَّوبِ حتّى لا يُدْرَى ما صيامٌ، ولا صلاةٌ، ولا نسُكٌ، ولا صدَقةٌ، وَلَيُسْرَى على كتابِ اللَّهِ -عزَّ وجلَّ- في ليلَةٍ، فلا يَبْقى في الأرضِ منهُ آيةٌ، وتبقى طوائفُ منَ النّاسِ الشَّيخُ الكبيرُ والعجوزُ، يقولونَ: أدرَكْنا آباءَنا على هذِهِ الكلمةِ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، فنحنُ نقولُها)، فقالَ لَهُ صِلةُ: ما تُغني عنهم: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وَهُم لا يَدرونَ ما صلاةٌ، ولا صِيَامٌ، ولا نُسُكٌ، ولا صدقةٌ؟ فأعرضَ عنهُ حُذَيْفةُ، ثمَّ ردَّها علَيهِ ثلاثًا، كلَّ ذلِكَ يعرضُ عنهُ حُذَيْفةُ، ثمَّ أقبلَ علَيهِ في الثّالثةِ، فقالَ: "يا صِلةُ، تُنجيهِم منَ النّار ثلاثًا" (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

وهذا الحديث أصل في هذا الباب العظيم المهم، وهو أن أصل الإيمان المنجي من النار -إذا ثبت للإنسان- هو: "لا إله إلا الله"؛ خلافًا لأهل البدع الذين يشترطون تفاصيل معينة في هذا الأمر، مثل: اشتراط ما سمَّوه: حدَّ الإسلام، وأركان الإيمان، وأجزاء الركن مِن الحكم والولاية والنسك، كما يقوله أتباع "عبد المجيد الشاذلي"، المشهورون بالتوقف والتَّبَيُّن، كما ذكره في كتابه: "حَدُّ الإسلام وحقيقة الإيمان": مِن أن مَن لم يعلم شيئًا من الحكم والولاية والنسك فهو كافر، جاهلًا كان أو غير جاهل، وإذا شكَّ في مدلولٍ من كلمةٍ عنده على أركان الحد -وهي: الحكم والولاية والنسك- فإنه يُتوقف فيه لموضع اللوث، وهذا كله مِن البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وللذلك نقول: هذا أصل مهم؛ لأن البعض يشترط في أصل الإيمان تفاصيل معينة في كلمة التوحيد، وفي الانقياد، ونحو ذلك.

فالبعض مِن أهل البدع يقولون: الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا إذا عَلِم تفاصيل هذه الكلمة، ولا تكفي المعرفة الإجمالية بها، بل لا بد أن يعرف أنواع الشرك ويتبرأ منها ويتركها! ولازم كلامهم أن يدرس التوحيد من أوله إلى آخره لنحكم له بأصل الإسلام وحقيقة الإيمان، وحقيقة كلامهم لزوم معرفة أنواع الشرك المختلفة؛ شرك النسك، وشرك الحكم، وشرك الولاية على حدِّ قولهم!

ويا ليتهم اكتفوا بذلك، بل جعلوا تفاصيل النُّسُك -لأن النسك مقصود به العبادة-، مثل: الاستعانة، والاستغاثة، والاستعاذة، والحَلِف، والنذر، والدعاء، والركوع والسجود، والخوف والرجاء، والإخلاص، والتوكل والإنابة؛ فكلُّ هذه داخلة في النُّسُك، وغيرها مِن أعمال الظاهر والباطن؛ فمَن جهل شيئًا مِن ذلك؛ فهو كافر عندهم!

ولم يكتفوا أيضًا بأن الولاء لله، بل لا بد أن يعرف التفصيل: فالمحبة، والنصرة، والطاعة، والمتابعة، والتشبه، والقيام بالأمر، والنصح، وغير ذلك مِن أمور الموالاة كلها شروط، أو أركان لا يصح الإيمان إلا بمعرفتها، وكذا تفاصيل أمر الحكم وأنواع الشرك فيه، لا يكون الإنسان مؤمنًا ولا مسلمًا، ظاهرًا ولا باطنًا، حتى توجد في قلبه، وينطق بها لسانه، إن توقفوا في معرفة ذلك مِن قلبه؛ توقفوا عن حكم الإسلام له.

ونرد عليهم قائلين: ولماذا اشترطتم هذه الأنواع الثلاثة فقط؟! بل يلزم على كلامكم اشتراط المعرفة بالشرك في الربوبية، والشرك في الأسماء والصفات؛ فلماذا لَمْ تشترطوا ذلك في أصول الإيمان؟! والمراد بها: أصل ما لا يثبت الإيمان ابتداءً إلا به، وأن مَن لم يعرفها فهو كافر جاهل، وهذا لا شك مِن أخطر الأمور، فإن كلَّ اسمٍ مِن أسماء الله الحسنى تتعلَّق به عبادة من العبادات، فلو جهله إنسان لَزِم -على قولهم- أنه كافر جاهل، وإذا وقع في شرك لا يدري أنه شرك، كان غير معذور عندهم؛ لأنه لا عذر بالجهل، ولا عذر بالتأويل! نعوذ بالله من هذه البدع المضلة.

والحق في ذلك: أن الأصل في الإيمان -كما قلنا- أن يعلم أنه لا إله إلا الله كما قال الله -عز وجل-، ثم يزداد ذلك -أي: أصل الإيمان- فيما بعد بما يبلغه عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من العقائد الواجبة، ومن تفاصيل الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل، واليوم الآخر، والقدر؛ بحيث يصبح ما بلغه مِن ذلك شرطًا في أصل الإيمان أو -على الأصح- ركنًا مِن أركانه، لو أنه كذَّب به لكفر، وهذا هو الوجه من وجوه زيادة الإيمان بالكمية. والله أعلى وأعلم.