إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ ‏

  • 52

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن أعظم محاسن هذه الشريعة الربانية السمحة: الرحمة والرأفة بالمكلفين كما قال -تعالى-: (حم . تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) (فصلت:1-2).

قال الشيخ العثيمين -رحمه الله- في سبب الإتيان بقوله -تعالى-: (مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ): "إشارة إلى أنَّ هذا القرآن نزَل بمقتضى رحمة الله -عز وجل-، وأنَّ الله رحِمَ به العباد" (انتهى).

فمِن ذلك: مراعاة الشريعة لنفسية ومشاعر المكلفين بالقدر المنضبط بلا إفراط ولا تفريط، كقوله -تعالى-: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء:148).

قال البغوي -رحمه الله- في تفسيره: "قوله : (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ) يعني: لا يحب الله الجهر بالقبح مِن القول إلا مَن ظلم، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله -تعالى-: (‌وَلَمَنِ ‌انْتَصَرَ ‌بَعْدَ ‌ظُلْمِهِ ‌فَأُولَئِكَ ‌مَا ‌عَلَيْهِمْ ‌مِنْ ‌سَبِيلٍ) (الشورى:41)، قال الحسن -رحمه الله-: دعاؤه عليه أن يقول: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي منه. وقيل : إن شتم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه" (انتهى).

عن مجاهد -رحمه الله-: "هو الرَّجُلُ يَنْزِلُ بِالرَّجُلِ فَلا يُحْسِنُ ضِيافَتَهُ فَيَخْرُجُ، فَيَقُولُ: أساءَ ضِيافَتِي ولَمْ يُحْسِنْ" (محاسن التأويل للقاسمي).

فانظر كيف جاء في أول الأمر بقوله: (لَا يُحِبُّ): المستلزم للمعاقبة والمؤاخذة؛ إبرازًا لكمال هذه الشريعة ورقيها واعتنائها بصالح الأخلاق، ثم قال: (إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ)؛ ليبرز لك كمال وشمول وحكمة هذه الشريعة الكريمة، وكذا سعة رحمة أرحم الراحمين، فإنه -سبحانه- مع كراهيته لذلك؛ فقد رخَّص للمظلوم بالضوابط -كما ذكرنا- أن يذكر مظلمته، أو أن يدعو على مَن ظلمه بلا تعدٍ -كما سيأتي-.

فلك أن تتخيل أن يظلم أحد ثم نقول له: لا يجوز لك أن تجيبه أو تشكو مظلمتك أو تدعو على مَن ظلمك على ما هو فيه مِن الهم والغم والغيظ الذي لربما يتصدع صدره منه! لا شك أن في ذلك من الضيق والحرج ما تنزهت عنه هذه الشريعة الكريمة، بل مِن أعظم مميزاتها: رفع الضيق والحرج عن الأمة، وكذا في هذا الجهر مصلحة أيضًا، كما ذكر ابن عاشور -رحمه الله- في التحرير والتنوير فقال: "ورخَّص الله للمظلوم الجهر بالقول السيئ ليشفي غضبه، حتّى لا يثوب إلى السيف أو إلى البَطش باليد، ففي هذا الإذن توسعة على مَن لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به" (انتهى).

ولكن حتى هذا الإذن للمظلوم له شروط كما قال السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "فإنه يجوز له أن يدعو على مَن ظلمه ويتشكى منه، ويجهر بالسوء لمن جهر له به، من غير أن يكذب عليه ولا يزيد على مظلمته، ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه" (انتهى).

وقال عبد الكريم بن مالك الجزري في هذه الآية: "هو الرجل يشتمك فتشتمه، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه" (تفسير ابن كثير).

فلا يجوز مثلًا إن قذفه أن يقذفه أو إن سبه أحدهم بوالديه أن يرد إليه المسبة بوالديه؛ لأنهما لم يعتديا عليه فلا يعتدي عليهما، وعدوانه عليهما في هذه الحالة أيضًا مِن الظلم المنهي عنه، على أنه كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-: "وإن صبر فهو خير له".

قال السعدي -رحمه الله-: "ومع ذلك فعفوه وعـدم مقابلته أولى، كما قـال -تعالى-: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) (الشورى:40)، (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء:148) (انتهى).

قلتُ: وذلك العفو يكون أفضل إن ترتب عليه مصلحة وخير، وارتداع وتوبة للظالم، أما إن زاد في عدوان الظالم، وربما تجرأ على ظلم غيره، فهنا لا تعفُ؛ لأن العفو بالآية الكريمة قُيِّد بالإصلاح، والشريعة لا تأمر إلا بالخير، ثم ختمت الآيات بصفات عظيمة من صفاته -سبحانه وبحمده-، وهي قوله -تعالى-: (وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء:148).

فالله -سبحانه وتعالى- هو السميع العليم بكل شيء، ومن ذلك: ما شرع لهم مما فيه مصلحتهم، ورحمتهم وصلاح شأنهم، وكذا هو سميع عليم بمَن ظلم، فيأخذ للمظلوم حقه منه، وبالمظلوم أيضًا: هل صبر وعفى أم جهر بمظلمته وحسب أم تعدى وظلم أيضًا؟ ولا شك ما في هاتين الصفتين من الترغيب والترهيب للناس أن يؤتوا ما يحبه الله من مكارم الأخلاق من العدل، والعفو المصلح -كما ذكرتُ لك-، ويجتنبوا ما يسخطه -تعالى- من الظلم والتعدي.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.