والله يعصمك من الناس

  • 90

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال الله -سبحانه وبحمده-: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ".

وعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحْرَسُ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ"، قَالَتْ: فَأَخْرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، وَقَالَ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" (تفسير ابن كثير).

ولا شك أن الآية أبرزت جانبًا عظيمًا مِن توكل النبي -صلى الله عليه وسلم- على ربه وتسليمه لأمره ويقينه في كفايته له -سبحانه وبحمده-، لكن أحدهم نظر إلى المعنى نظرة أخرى وكان سببًا لإسلامه وخروجه من الظلمات إلى النور بفضل الله وتوفيقه، ومنته عليه -سبحانه وبحمده-، وهي باحثة بلجيكية كما ذكر ذلك أحد المواقع الدعوية، قال: هذه الباحثة البلجيكيَّةُ عكفَت على دراسة سيرة الرَّسول محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى أن وصلَت هذه النُّقطة: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ".

فتوقَّفَت عندها لتقول: لو كان هذا الرَّجل يَخدع النَّاسَ جميعًا، ما خدَع نفسَه في حياته، ولو لم يكن واثِقًا بأنَّ الله يحرُسُه، لَما فعَل ذلك كتجربة واقعيَّة تدلُّ على ثِقته بخالقه.

وأضافَت هذه البَاحثة البلجيكيَّة: "وأنا أقول بملء اليَقين: أشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله" (انتهى).

فإبراز محاسن وصفات النبي -صلى الله عليه وسلم- ونشر سيرته العظيمة والذب عنها، وتيسير فهم القرآن المجيد وتقريبه، وإبراز عظمته وهيمنته، ورحمته وشموله، وكماله وحفظه، مِن أعظم الأسباب شرح الصدور وإقبالها على هذا الدين العظيم، وإخراجها من الظلمات إلى النور، والى سعة وسعادة الدنيا والآخرة، كما حصل مع هذه البَاحثة وغيرها، وان لم يسلموا، لكنهم لا يجدون مفرًّا من الإقرار بصدقه -صلى الله عليه وسلم-.

وهذا المعنى قد تفطَّن له هرقل في حديثه مع أبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه- كما روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-أن هرقل قال لأبي سفيان: "وسَأَلْتُكَ: هلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بالكَذِبِ قَبْلَ أنْ يَقُولَ ما قالَ، فَزَعَمْتَ أنْ لَا، فَعَرَفْتُ أنَّه لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ علَى النَّاسِ ويَكْذِبَ علَى اللَّهِ".

وقال ابنُ أبي العِزِّ: "إنَّ النُّبُوَّةَ إنَّما يدَّعيها أصدَقُ الصَّادِقين، أو أكذَبُ الكاذِبين، ولا يلتَبِسُ هذا بهذا إلَّا على أجهَلِ الجاهِلين، بل قرائِنُ أحوالِهما تُعرِبُ عنهما، وتُعرَفُ بهما، والتمييزُ بين الصَّادِقِ والكاذِبِ له طرُقٌ كثيرةٌ فيما دونَ دعوى النُّبُوَّةِ، فكيف بدعوى النُّبُوَّةِ؟" (شرح العقيدة الطحاوية).

وكذا ما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعا إليه مِن أعظم أسباب صدقه، وكما ذكر عن المسيح -عليه السلام- أنه قال: "مِن ثمارهم تعرفونهم، هل يجتنون من الشوك عنبًا، أو من الحسك تينًا؟ هكذا كل شجرة جيدة تصنع ثمارًا جيدة، أما الشجرة الردية فتصنع ثمارًا رديئة" (انتهى).

وهذا المعنى أيضًا أقرَّه هرقل في حديثه مع أبي سفيان بن حرب -رضي الله عنه-؛ قال له هرقل: "وسَأَلْتُكَ: بمَاذَا يَأْمُرُكُمْ، فَزَعَمْتَ أنَّه يَأْمُرُكُمْ أنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا به شيئًا، ويَنْهَاكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، ويَأْمُرُكُمْ بالصَّلَاةِ، والصَّدَقَةِ، والعَفَافِ، والوَفَاءِ بالعَهْدِ، وأَدَاءِ الأمَانَةِ، قالَ: وهذِه صِفَةُ النبيِّ".

وكذا ما ذكره عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- ولم يكن آنذاك مسلمًا قال -رضي الله عنه-: "قد قدمَ رسولُ اللَّهِ، قد قدمَ رسولُ اللَّهِ ثلاثًا، فَجِئْتُ في النَّاسِ لأنظرَ، فلمَّا تبيَّنتُ وجهَهُ عرفتُ أنَّ وجهَهُ ليسَ بوَجهِ كذَّابٍ، فَكانَ أوَّلُ شيءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أن قالَ: يا أيُّها النَّاسُ أفشوا السَّلامَ، وأطعِموا الطَّعامَ، وصِلوا الأرحامَ، وصلُّوا باللَّيلِ، والنَّاسُ نيامٌ، تدخلوا الجنَّةَ بسَلامٍ".

فهذا المرور السريع الغرض منه: الإشارة إلى هذه المعاني والتركيز عليها لتعظم الاستفادة منها لنوفي جزءًا ولو ضئيلًا مِن حق نبينا -صلى الله عليه وسلم- علينا، وكذا نشرًا لهذا النور وهذه الرحمة التي جاء بها نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

فاللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.