تونس ... إلى أين؟ (2) تداعيات إلغاء الخلافة الإسلامية

  • 58

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أحدث إلغاء كمال أتاتورك للخلافة الإسلامية في تركيا في مارس 1924 دويًّا هائلًا في أنحاء العالم الإسلامي عامة، وفي تونس خاصة، حيث استنكرت جماهير الأمة هذا الإلغاء، وفي مقدمتهم: علماء الدِّين والنخبة من المثقفين والمتعلمين، بينما تقبلته قلة قليلة من الأمة ممَّن رأوا أن دور الخلافة قد انتهى، وتمادى بعضهم، فتقبَّل كل ما قام به أتاتورك بعد إلغاء الخلافة الإسلامية من أعمالٍ لإزالة معالم الإسلام في تركيا، وإقامة دولة مدنية (علمانية) حديثة في تركيا على نَسَق الدول الأوروبية تقوم على فصل الدين عن الدولة (العلمانية)، وتبني الفكر القومي، والأخذ بمبادئ الديمقراطية على الطريقة الغربية. 

(بدأت الدولة العثمانية في التفكك في العقدين الأولين من القرن العشرين، وقد كشفت معاهدة (سايكس - بيكو) تآمر القوى الدولية على اقتسام تركة (الرجل المريض)، وهو الاسم الذي أطلق على السلطنة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وقد نصَّت تلك المعاهدة السرية التي أبرمتها روسيا وفرنسا وإنجلترا سنة ست عشرة وتسعمائة وألف على اقتسام الأقاليم التي تسيطر عليها السلطنة) (راجع: "النخبة التونسية ومعركة الخلافة في النصف الأول من القرن العشرين" د. حسن بزاينية - كتاب عالم الفكر - الكويت - (عدد يناير  - مارس، 2019م، ص 210)

وهكذا بدأت النوائب تتسارع حتى إبرام معاهدة (اتفاقية) لوزان سنة 1923، وهي المعاهدة (التي أجهزت على الإمبراطورية العثمانية، ولم تبقَ لها سوى تركيا الحديثة بحدودها الحالية تقريباً)، ففي ضوء ما أصاب السلطنة من وهنٍ وحروبٍ متتابعةٍ، وبعد حرب التحرير التي خاضها مصطفى كمال ضد الحلفاء (الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين) لاحتفاظ تركيا بسيادتها، لم تغير الحرب (جغرافيا السلطنة العثمانية فقط، بل غيَّرت من فكر أتاتورك؛ إذ خرج من الحرب نابذًا جميع الأيديولوجيات الوحدوية الإسلامية والعثمانية، وبدأ في بناء الجمهورية التركية العلمانية) (المصدر السابق).

وقد قام أتاتورك بعد سيطرته على مقاليد الأمور في تركيا بعدة خطوات لتنفيذ هدفه: حيث (قدَّم مصطفى كمال إلى الجمعية الوطنية سنة 1922 (وثيقة التفريق) بين الخلافة والسلطنة، وهي الوثيقة التي مهَّدت لإلغاء الخلافة في شهر مارس من سنة أربع وعشرين وتسعمائة وألف، وتشتمل هذه الوثيقة على الحجج التي استند إليها الجمهوريون في التفريق بين الخلافة (دينية وروحية) والسلطنة (سياسية وزمنية).

وقد حُررت هذه الوثيقة لتهيئة الرأي العام التركي لفصل الخلافة عن الدولة تمهيدًا لإلغائها، وبعد إلغاء الخلافة فعليًّا عمد أتاتورك إلى اتخاذ (تدابير للقضاء على سلطة العلماء في المجالات القانونية والتعليمية، وأغلق الكتاتيب، وحل الطرق الصوفية، وألغى التقويم الهجري، والأوقاف) (المصدر السابق)، إلى جانب إنشاء تعليم علماني مائة في المائة، وإلغاء التشريع الإسلامي والاستعاضة عنه بتشريع أوروبي مستورد.

كما حرَّم اللباس الشرعي على المرأة المسلمة، وألزم الرجال بلبس القبعة الإفرنجية، وعلمن التعليم والتربية في كلِّ مراحل التعليم، وحارب الثقافة الإسلامية حربًا لا هوادة فيها، وجعل كتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية بدلًا من الحروف العربية، بل إنه حول مسجد (أيا صوفيا) الذي يتعبَّد فيه المسلمون لقرونٍ عديدةٍ إلى متحف للسياح (ولم يبقَ للدِّين في تركيا إلا (إدارة للشئون الدينية)؛ ليس لها سلطان مستقل، ولا مالية خاصة، بعد استيلاء الدولة على الأوقاف، فهي ترس في جهاز الحكومة يدور بدورانها، ويتحرك بتحركها؛ فعمل هذه الإدارة يتعلَّق فقط بالإشراف على خطباء المساجد، الذين حرَّم عليهم أن يلبسوا الجبة والعمامة خارج المسجد؛ ولذا نجد هذا اللباس معلقًا في المسجد، يلبسه الخطيب إذا دخل، وإذا خرج لبس القبعة!).

وتقوم الفكرة الأساسية لوثيقة التفريق -لإنكار نصب الخليفة- على أن الخلافة الحقيقية تتعلق بزمان الخلفاء الراشدين، وأن مَن سموا بخلفاء بعدهم لم يكونوا إلا ملوكًا وسلاطين.

(ويمكن القول: إن وثيقة التفريق كانت العامود النظري لما أعقبها من كتابات حول الخلافة خصوصًا كتاب الشيخ علي عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" (1925م)، (وقد اطلع الشيخ علي عبد الرازق على وثيقة التفريق بين الخلافة والسلطنة، واعتمد عليها في تحرير كتابه، وأحال عليها، بل أقر تقريبًا ما أقرت من حجج في إنكار الحاجة إلى نصب الخليفة) (المصدر السابق (ص213) بتصرفٍ).

وقد قام عَلَمَان من أعلام جامع الزيتونة بتونس، وهما: محمد الطاهر بن عاشور، ومحمد الخضر حسين بالرد على علي عبد الرازق بمؤلفين مفردين. 

(في حين أبدى قطاعٌ كبيرٌ من النُّخْبَة التونسية تعاطفًا واضحًا مع السلطنة العثمانية التي دخلت الحرب مع ألمانيا ضد فرنسا، فدعت بعض الملصقات السرية لطلاب الجامع الأعظم (الزيتونة) إلى عدم إعانة فرنسا) (المصدر السابق).

وكانت (النُّخَب التونسية خلال الحرب الأولى معادية لفرنسا مناصِرة لتركيا التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا، فدعا الخطباء من منابرهم بنصر السلطان العثماني، مثلما دعت المناشير السرية لطلبة الجامع الأعظم إلى ذلك) (المصدر السابق).

وكان رد الشيخ الخضر حسين على علي عبد الرازق في إطار نضاله الوطني وعدائه للاستعمار الفرنسي لتونس؛ إذ كان مِن ألد أعداء الاستعمار الفرنسي؛ لذا حكم عليه بالإعدام، فهاجر إلى دمشق، ومنها إلى القاهرة، حيث أصدر مجلة (الهداية الإسلامية)، وتولَّى التدريس بالأزهر، وتم اختياره شيخًا للأزهر عام 1952م. (المصدر السابق)

(ولا ريب في أن الشيخين: ابن عاشور والخضر حسين، كانا يمثِّلان السنية الدينية الرسمية، فالأول تولى عددًا من المناصب الرسمية، مثل: شيخ الجامع الأعظم (الزيتونة)، ومفتي الديار التونسية، وشيخ الإسلام المالكي. والثاني وَلِيَ إمامة مشايخ الأزهر) (المصدر السابق).