الدين الإبراهيمي بين الحقيقة والضلال (49) قصة إحياء الطيور الأربعة (11)

  • 70

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله -عز وجل-: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ‌أَرِنِي ‌كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة:260).

الفائدة السابعة:

ذكرنا في قاعدة: "الإيمانِ له أصلٌ وكمالٌ" الأصولَ الأربعةَ المتفق عليها في كونها أركانًا في أصل الإيمان، أما الأصول المختلف فيها، فهي: المباني الأربعة المذكورة في حديث جبريل -عليه السلام-؛ أي: الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وبعض أهل العلم ألحقها كلها بالأصول، وأكثرهم لم يُلحق منها شيئًا، وبعضهم ألحق بعضها؛ بمعنى أنه يكفِّر مَن ترك شيئًا منها.

وهذه الأقوال كالتالي:

فمِن أهل العلم مَن يكفِّر تارك الصلاة تكاسلًا، وهذه أشهر المسائل التي فيها الخلاف، وهم يكفرونه بترك ثلاث صلوات -على قول-، أو صلاتين مجموعتين -على قول-، أو صلاة واحدة -على قول ثالث-.

وهؤلاء -الذين يكفرون بترك الصلاة- عامتهم إنما يكفرون تارك الصلاة تكاسلًا، إذا دعاه الإمام إلى الصلاة، وعرضه على السيف فأبى، فعند ذلك يكفِّرونه، ويوجبون قتله ردةً، وقالوا: إنه لا يُتصور أن يكون مُصدقًا بوجوب الصلاة ومُوقنًا بأن الله يعذبه على تركها، وفي قلبه تعظيم أمر الله والانقياد لأمره، ثم يفضِّل القتل على أن يصلي، فإذا صبر على القتل فلا يمكن إلا أن يكون كافرًا زنديقًا.

وبعضهم يكفر بترك الصلاة والزكاة، وبعضهم يكفر بترك الصلاة أو الزكاة إذا قاتل على منعها، وبعضهم يكفر بترك أي مِن الأركان الأربعة، وهذه الأقوال كلها في مذهب أحمد -رحمه الله تعالى-.

وإن كان مَن يكفرون بترك الصلاة بعضهم يكفر بالترك المجرد، وهو أضعف الأقوال عند الحنابلة، وإنما قال به الآجري وطائفة وافقته، ولكن عامة مَن يكفرون إنما يكفرونه إذا عُرض على السيف.

وجماهير العلماء لا يكفرون بترك شيء من الأركان الأربعة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "مباني الإسلام الأربعة المأمور بها إن كان ضرر تركها لا يتعدى صاحبها؛ فإنه يُقاتَل بتركها عند جماهير العلماء (يقصد: إذا كانوا طائفة امتنعت عن الصلاة، وامتنعت عن أن تسلم تارك الصلاة للإمام؛ لكي يعاقبه على تركها) ويكفر أيضًا عند كثير منهم أو أكثرهم أو أكثر السلف (إنما قال ذلك؛ لأن جماهير المتأخرين من أهل العلم لا يكفرون تارك الصلاة، ونسبة التكفير إلى جمهور السلف فيه نظر).

وأما فعل المنهي عنه -الذي لا يتعدى ضرره صاحبه- فإنه لا يُقتَل به عند أحد من الأئمة، ولا يكفر به؛ إلا إذا ناقض الإيمان بفوات الإيمان، وكونه مرتدًا أو زنديقًا (قلتُ: بعض المنهي عنه قد ورد الشرع فيه بقتل صاحبه؛ مثل: رجم الزاني المحصن).

وذلك أن من الأئمة مَن يقتله ويكفره بترك كل واحدة من الخمس؛ لأن الإسلام بُني عليها، وهو قول طائفة من السلف، ورواية عن أحمد، اختارها بعض أصحابه.

 ومنهم من لم يقتله ولا يكفره إلا بترك الصلاة والزكاة، وهي رواية أخرى عن أحمد، ومنهم من يقتله بهما ويكفره بالصلاة والزكاة إذا قاتل الإمامَ عليها، كرواية الإمام أحمد، ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره إلا بالصلاة، كرواية عن أحمد، ومنهم من يقتله بهما ولا يكفره، كرواية عن أحمد، ومنهم من لا يقتله إلا بالصلاة ولا يكفره، كالمشهور من مذهب الشافعي" (انتهى من مجموع الفتاوى، 20/ 97).

ويُلاحَظ هنا: أن هذه الأحكام هي الترك المجرد عن الجحود والاستكبار، قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: "مردود النزاع هو فيمن أقرَّ بوجوبها والتزم فعلها ولم يفعلها، وأما مَن لم يقر بوجوبها فهو كافر باتفاقهم" (انتهى من مجموع الفتاوى، 20/ 97).

بناءً على ذلك، فالخلاف فيمَن ترك المباني الأربعة -وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج- متكاسلًا لا جاحدًا ولا آبيًا ولا مستكبرًا؛ وذلك بأن يقر أنه مخطئ، وأن الصلاة فرض، وأنها تلزمه = فالخلاف فيه سائغ.

بخلاف الجاحد الذي يقول: صوم رمضان ليس فرضًا! والآبي الذي يقول: لا يلزمني أن أصوم! فالمتكاسل هو الذي يُفطر في رمضان مع إقراره بفرضيته، بحجة أنه متعب أو جائع، أو لا يخرج الزكاة بخلًا بها، بزعم قلة المال وكثرة الحقوق وخوف الفقر، أو رجل لا يحج مع الإقرار بوجوبه، بحجة ارتفاع حرارة الجو ومشقة السفر إلى الحج وكثرة الزحام الذي لا يحتمله في ظنه؛ فهذا تارك لهذه الأركان تكاسلًا لا جحودًا.

وهذا المتكاسل هو الذي وقع فيه الخلاف بين العلماء؛ منهم مَن يكفره كفرًا أكبر، ومنهم مَن لا يكفره كفرًا أكبر؛ بل أصغر، والقول الثاني هو قول جمهور العلماء.

وأما منزلة الخلاف في هذه المسألة، فهي مِن مسائل الخلاف السائغ؛ فليس هناك خلاف أنه لو أبق عبد من سيده أنه ليس بكافر؛ مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أيُّما عَبدٍ أبَقَ مِن مَواليهِ، فقد كفَرَ) (رواه مسلم)، فنعني أنه ليس كافرًا كفرًا أكبر بالإجماع، فهذا الكفر -باتفاق أهل السنة وإجماعهم- محمول على أنه كفر دون كفر.

والمرأة التي لا تطيع زوجها ليس هناك خلاف في أنها ليست كافرة كفرًا ناقلًا عن الملة، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمَّى عدم طاعة الزوج كفرًا، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- للنساء: (يا مَعْشَرَ النِّساءِ، تَصَدَّقْنَ وأَكْثِرْنَ الاسْتِغْفارَ، فإنِّي رَأَيْتُكُنَّ أكْثَرَ أهْلِ النّارِ، فَقالتِ امْرَأَةٌ منهنَّ جَزْلَةٌ: وما لنا يا رَسولَ اللهِ أكْثَرُ أهْلِ النّارِ؟ قالَ: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وتَكْفُرْنَ العَشِيرَ) (متفق عليه)، وليس هناك خلاف بأنه كفر دون كفر، وكذا مَن ترك برَّ والديه.

فمَن كفَّر العبد الآبق مِن مولاه؛ فهو ضال مبتدع، ومَن كفَّر المرأة التي تعصي زوجها فهو ضال مبتدع، ومَن كفَّر آكل الربا -مِن غير استحلال- فهو ضال مبتدع، ويكون أسوأ من آكل الربا نفسه، بخلاف الصلاة والزكاة والصيام والحج، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (العَهدُ الذي بَينَنا وبَينَهُم الصلاةُ، فمن تَرَكَها فَقَد كَفَرَ) (رواه الترمذي والنسائي وأحمد، وصححه الألباني).

وهناك تفسيران: الأول: كَفَر كفرًا أكبر، والثاني: كَفَر كفرًا أصغر، وكلاهما محتمل عند أهل السنة، لا يخرج الإنسان بترجيح أحدهما إلى الابتداع، فهذه مسألة اجتهادية كما مضى، فلا يُبدع فيها المخالف ولا يُفسق، سواء مَن كفَّره لا يقول عمَّن لم يكفره: مرجئ، ومَن لم يكفِّره لا يقول عمَّن كفَّره: إنه خوارج أو تكفير.

فأما مسألة تكفير مرتكب الكبيرة؛ فلا نزاع فيها عند أهل السنة، ومَن قال بها مِن الخوارج أو مَن قال بخلوده في النار مِن المعتزلة؛ فهو ضال مبتدع.

 وأما الراجح في هذه المسألة فهو قولُ جماهير أهل السنة: أنه لا يُكفَّر؛ لما رواه أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (فيَقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: شَفَعَتِ المَلائِكَةُ، وشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنُونَ، ولَمْ يَبْقَ إلَّا أرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ،  فيُخْرِجُ مِنْها قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ... )، وفي آخر الحديث قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هَؤُلاءِ عُتَقاءُ اللهِ الَّذِينَ أدْخَلَهُمُ اللَّهُ الجَنَّةَ بغيرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، ولا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ) (رواه مسلم).

وهو مِن أصرح الأدلة على ذلك، ولا يصح حمله على مَن يكون في آخر الزمان ممَّن لم يبلغه فرض الصلاة وغيرها، فإن هؤلاء إذ لم يبلغهم وجوب هذه الأشياء لا يستحقون عذابًا؛ إذ مِن شروط التكليف: العلم أو التمكن منه، وهؤلاء عاجزون؛ لاندثار الشرائع كلها، والأحاديث الواردة هي في خروج عصاة الموحدين من النار.

وكذلك لا يصح تقييدها بالأحاديث الواردة في وجوب الأعمال وكفر تارك الصلاة؛ لأن مقتضى ذلك التقييد أن يكون مَن يحافظ على الصلوات الخمس في مواقتيها يُقَال عنه: لم يعمل خيرًا قط! وهذا باطل ظاهر البطلان.

ويؤيد ذلك: قول أبي بكر -رضي الله عنه-: "واللهِ لَأُقاتِلَنَّ مَن فَرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ" (متفق عليه)، فهو دليل واضح على عدم الفرق بينهما عند الصحابة، مع ما قد ورد في مانعي الزكاة أنه يُعذَّب يوم القيامة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يُرَى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولو كان كافرًا كفرًا أكبر لما احتمل أن يكون سبيله إلى الجنة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ما مِن صَاحِبِ كَنزٍ لا يُؤدِّي زَكاتَه، إلّا أُحْمي عليه في نارِ جَهَنَّمَ، فيُجْعَلُ صَفائِحَ، فيُكْوى بها جَنْبَاهُ وجَبينُه، حتى يَحكُمَ اللهُ بيْنَ عِبادِهِ في يَومٍ كان مِقْدارُهُ خَمْسينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثم يَرى سَبيلَه إمّا إلى الجَنَّةِ، وإمّا إلى النّارِ) (متفق عليه، وهذا لفظ مسلم).

وفي هذه الرواية الصريحة ردٌّ على القائلين: بأن مَن لم يكفِّر تارك المباني فهو مرجئ ومبتدع! ويحملون الحديث على بعض رواياته: "لا يُؤدِّي حقَّها"، ويحملون الحق على ما سوى الزكاة؛ فهذه الرواية نص صريح في الزكاة لا يجوز أن تهمل.

وكذا المفطر في رمضان، فقد أمره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقضاء والكفارة، مع أنه مفطر عمدًا؛ فدلَّ ذلك على أن الأركان الأربعة تركها تكاسلًا أو شهوة، لا يُخرج مِن الملة، ولكن نسمي مَن ترك الصلاة كافرًا، ونسمي ترك الصلاة كفرًا؛ لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- سمَّاه كذلك؛ لكن نقول: هو كفر دون كفر، والخطر الأعظم على تارك الصلاة أن يموت على غير التوحيد، ويُفتن عند الموت؛ لأن الشيطان يسهل عليه التسلط عليه عند موته، وأبواب الكفر مفتوحة عليه، وسوء الخاتمة أقرب إليه، نعوذ بالله من ذلك.