استوصوا بهم خيرًا (1)

  • 127

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

جاء في ترجمة جمال الدين محمد طاهر الهندي المُلَقَّب بملك المحدثين أنه: "ورث من أبيه مالًا جزيلًا فأنفقه على طلبة العلم، وكان يرسل إلى معلمي الصبيان، ويقول: أيما صبي حسن ذكاؤه فأرسله إليَّ، فيرسل إليه جماعة، فيقول لكل واحد: كيف حالك؟ فإن كان غنيًّا أمره بطلب العلم، وإن كان فقيرًا يقول له تعلَّم ولا تهتم من جهة معاشك، ثم يتعهده بجميع ما يحتاج إليه، وكان هذا دأبه حتى صار منهم جماعة كثيرة علماء في فنون كثيرة".

كان سفيان الثوري -رحمه الله- يقول: "والله لو لم يأتوني لأتيتهم في بيوتهم -يعني أصحاب الحديث- فقيل لسفيان: إنهم يطلبونه بغير نية! فقال: إن طلبهم إياه نية".

وهذا الربيع بن سليمان يقول: "قال لي الشافعي -رحمه الله-: يا ربيع، لو قدرت أن أطعمك العلم لأطعمتك إياه".

وقال أحمد لابنه عبد الله: "أفد أصحاب الحديث وأكرمهم، فإن إبراهيم بن بكر بن عياش لم يكن يفيد أصحاب الحديث ويجفوهم، فلم يفلح".

وأورد الذهبي عن هشام بن حسان أنه كان يقول لأصحاب الحديث: "لوددت أني قارورة، حتى كنت أقطر في حلق كل واحد منكم".

ورُوي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "أكرم الناس عليَّ جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إليَّ لو استطعتُ أن لا يقع الذباب على وجهه لفعلت!"، وفي رواية: "إن الذباب ليقع عليه فيؤذيني!".

ويروي الإمام أبو يوسف: "كنت أطلب الحديث والفقه، وأنا مقلّ رثّ الحال، فجاء أبي يومًا وأنا عند أبي حنيفة، فانصرفت معه، فقال: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة، فإن أبا حنيفة خبزه مشوي ، وأنت تحتاج إلى المعاش، فقصرت عن كثيرٍ مِن الطلب، وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة، وسأل عني، فجعلت أتعاهد مجلسه، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخري عنه، قال لي: ما شغلك عنا؟ قلت: الشغل بالمعاش وطاعة والدي، فجلست، فلمَّا انصرف الناس دفع إلى صُرَّة، وقال: استمتع بها، فنظرت فإذا فيها مائة درهم، فقال لي: الزم الحلقة، وإذا فرغت هذه فأعلمني. فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إلى مائة أخرى، ثم كان يتعهَّدني وما أعلمته بقِلَّة قطّ، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يُخبَر بنفادها، حتى بلغت حاجتي من العلم أحسن الله مكافأته".

وروي أيضًا: "أن الحسن بن زياد كان فقيرًا، وكان يلازم الإمام أبي حنيفة، فكان أبوه يقول له: لنا بناتٌ وليس لنا غيرك، فاشتغل بهنَّ؛ فلمّا بلغ الخبر الإمام أبا حنيفة أجرى عليه رزقًا، وشجَّعه، وقال له: الزم الفقه؛ فإني ما رأيت فقيهًا معسرًا قط".

فانظر كيف رعى أبو حنيفة تلاميذه حتى بلغوا ما بلغوا من العلم والفقه، بل وأوصاهم بذلك مع تلاميذهم من بعده، ففي وصية الإمام أبي حنيفة لأبي يوسف: "وأقبل على متفقهيك كأنك اتخذت كل واحد منهم ابنًا وولدًا لتزيدهم رغبة في العلم".

وكذا سار تلاميذه على الدرب، فقد دخل أسد بن الفرات -رحمه الله- ليجلس في مجلس محمد بن الحسن الشيباني مع مئات وآلاف الطلاب فلم يستطع أن يسأل عمَّا يريد، ولا أن يتعلم ما يشتهي، فذكر ذلك لشيخه، وقال له: "إني غريب قليل النفقة، والسماع منك نَزْر -أي: قليل-، والطلبة عندك كثير، فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن: اسمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي، وأسمعك. قال أسد: فكان ذلك دأبه ودأبي، حتى أتيتُ على ما أريد من السماع عليه".

فالعناية بطلاب العلم عمومًا والنابهين منهم خصوصًا لمِن أولى أولويات العالم والداعية، بل وكل محب لعلو الإسلام والمسلمين.

وقد روي عن أبي هارون العبدي، قال: "كنا إذا أتينا أبا سعيد الخدري، قال: مرحبا بوصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لنا: إن الناس لكم تبع، وإنهم سيأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدِّين، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرًا".

وعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: حدثني صفوان بن عسال قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد متكئ على برد له أحمر، فقلتُ: يا رسول الله، إني جئت أطلب العلم، فقال: إن طالب العلم لتحفه الملائكة بأجنحتها ثم تركب بعضها بعضًا حتى تعلو السماء الدنيا من حبهم لما يطلب".

فهذا حب الملائكة له ورضاهم بصنعه مع عدم حاجتهم إليه؛ فكيف ينبغي أن يكون حب الناس له مع انتفاعهم به وحاجتهم إليه؟!

وللحديث بقية -إن شاء الله-.