العربية والكيدُ لها

  • 334

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

تَعَدَّدَتْ مظاهرُ الكيد للغة العربية منذ وَقَع الاحتلال الغربي للبلاد الإسلامية، وقد شَخَّص شيخُ العربية العلامة محمود شاكر الدَّافع وراء الحملة على الفصحى، فقال: "منذ استيقظ العالم الأوروبي لنهضته الحديثة وهو يرى عجبًا مِن حوله، أمم مختلفة الأجناس والألسنة تتلو كتابًا واحدًا يجمعها، تقرؤه بألسنتهم العربية وغير العربية، ويحفظونه عن ظهر قلب، عرفت لغة العرب أم لم تعرفها، فتداخلت لغته في لغاتهم، وتحوَّلت خطوط الأمم إلى الخط الذي يُكتب به، وكذا سائر مَن دان بالإسلام، فكان عجبًا أن يكون في الأرض كتاب له هذه القوة الخارقة في تحويل البشر إلى اتجاهٍ واحدٍ متَّسق على اختلاف الأجناس والألوان والألسنة".

ومِن ثَمَّ جَعلَ أعداءُ أمتنا الغاية الأسمى لهم إحداث القطيعة بين المسلمين وبين هذا الكتاب المجيد الذي يستمدون منه قِيَمهم ومبادئهم ورؤيتهم للحياة والوجود.

أذكر مقالًا عجيبًا للدكتور حسين الهواري -نشرته قديمًا مجلة الهلال عام 1934 م- عن تقريرٍ وَقَع في يده للجنة العمل المغربي الفرنسية، يقول: "إن السياسة الاستعمارية هدفها تصفية مقاومة الإسلام، وإن التقارير السرية التي يرسلها المستشرقون إلى حكوماتهم توصي بأن أولَّ سبيلٍ لوأد مقاومة الإسلام هو التقليل من أهمية اللغة وصرف الناس عنها، بإحياء اللهجات المحلية واللغات العامية؛ حتى لا يفهم المسلمون قرآنهم، ويتم التغلب على عواطفهم".

وإن أردنا أن نعدِّدَ مظاهرَ الكيد للفصحى؛ نجد أن مِن بينها: نشر اللغات الأجنبية واعتمادها لغة للتعليم؛ بغية السيطرة على العرب، وضمان تبعيتهم للاستعمار.

ومنها: دعم هجر الفصيحة؛ تمهيدًا للقضاء عليها لفصل العرب عن تراثهم ودينهم، والسخرية من الفصحى وتحقير أهلها في الوسائل الإعلامية، واختراع لغة ثالثة، أو وسيطة، أو "الفصعمية"، أو "الخنثى" على قول عباس خضر، أو "الفصحى المخففة والعامية المشرقة" كما أرادها فرح أنطون، والدعوة إلى إلغاء الإعراب وتسكين أواخر الكلمات.

ومن الكيد أيضًا: تلك الدعوة إلى كتابة العربية بحروف لاتينية، والدعوة إلى تطوير النحو والبلاغة، ويعنون بذلك إهدارهما!

أما الكيد الأقبح: فكان اصطناع الشعر المنثور، وتشجيع الأدب الشعبي، وتغريب الأدب، والهرولة نحو الأدب الغربي، ووصفه بـ"العالمي!".

على أن أخطر هذه المحاور: كان الترويج للعامية، ووضع القواعد لها، وتحديد كيفية رسم كلماتها، ونقلها مِن اللهجة المنطوقة المقصورة على الاستعمال الوظيفي في الحياة اليومية إلى اللغة المكتوبة المستعملة في التأليف والبحث والإدارة؛ أي: جعل العامية لغة أدبية بدلًا من الفصيحة.

ولا يمكن أن يزعمَ أحدٌ أن الدعوة إلى العامية دعوة بريئة نزيهة، وإنما هي محاولة لاقتلاع الإنسان المسلم من ثقافته، وعزله معنويًّا وشعوريًّا ليسهل تشكيله وإلحاقه بنموذج ثقافي آخر.

والحقيقة: أن الدعوة إلى العامية زائفة المحتوى، ومعادية الأهداف؛ أما زيفها: فادعاؤهم أن العامية مستعملة أكثر من الفصحى، والحقيقة: أن العامية ما هي إلا مستوى تعبيري من مستويات الفصحى، منطوق ومستعمل في الحياة اليومية، وعليه فإن مِن تحصيل الحاصل الدعوة إلى استعمال المستعمل، وقيمة العامية كامنة في أنها منطوقة، وهذا سر مرونتها وحرارتها، وإذا دُوِّنت جمدتْ وبات مِن المحتم نشوء عامية أخرى جديدة.

وأما كونها معادية الأهداف: فإن أنصار الفصيحة لم يحاربوا الدعوة إلى العامية لمجرد مخالفتهم لمحتواها أو جهلهم بزيفها، بل حاربوها لما تضمره من أهداف معادية للأمة، ولدينها، ولتراثها الإسلامي والعربي.

لقد وُجِدت العامية منذ العصور التاريخية القديمة في صورةِ لهجاتٍ يستعملها العامة في بيئاتٍ مختلفةٍ، وهم يعرفون أنهم باستعمالهم إياها لا يبلغون المستوى الرفيع الذي يبلغونه بالفصحى؛ ولذلك كانت العامية محصورة في بيئات التخاطب الضيقة التي كانت بيئات منعزلة.

لم تكن العامية ترقى لتكون لغة الأدب أو الثقافة أو الدواوين الرسمية، ولم تكن الدروس تُلقَى بها في حلقات العلم؛ ولذلك لم يكن لها خطر على الفصحى في تلك الأيام.

وكان لكلٍّ مِن: العامية والفصحى دور في التعبير تؤديه في ميدانها: أما العامية المحكية فكان يمليها الانفعال الآني بالمواقف اليومية العادية، وأما الفصحى المكتوبة فكان يمليها تملِّي الفكرة والانفعال المركَّز بها.

إن ثنائية (العامية / الفصحى) من أكبر المشاكل التي تعرَّضت لها لغتنا العربية في تاريخنا الحديث، والتي تجسِّد التمني بإحلال الأولى محل الثانية، وادَّعى مروجو العامية أنها ذات طواعية ومرونة في الفهم، وأنها قادرة على التعبير الكتابي الأمثل عما يريده الناطق بها -في زعمهم!-.

لقد تعمَّد دعاةُ التغريب الخلطَ في حديثهم عن الفصحى والعامية، وادَّعوا بأن العاميةَ لغة مستقلة بذاتها كالعربية!

والحق: أن هناك لغة واحدة هي العربية، ولهجة هي العامية، وأن الفصحى هي اللغة المشتركة بين لهجات العرب جميعًا، وأنها هي القوة القادرة المؤهَّلة للمحافظة على بقاء المستوى البياني بين القرآن واللغة العربية، وأن أخطر الأخطار أن يُمَس هذا المستوى أو أن تجري محاولة للانتقاص منه.