من أصول أهل السنة والجماعة في التعامل مع النصوص الشرعية (2)

  • 38

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

نستكمل في هذا المقال الكلام على أصول أهل السنة والجماعة في التعامل مع النصوص الشرعية.

ثانيًا: التعامل مع النصوص على سبيل الاعتماد عليها والافتقار إليها:

لا بد أن يكون تعامل المسلم مع النصوص الشرعية تعامل المفتقِر إليها، الضال الذى يبحث عن نجاته وهدايته فيها، وهو متيقن أنه لا نجاة له ولا هداية إلا باتباعها وتقديمها، فيكون همُّه وما يشغله هو الاعتماد على النصوص الشرعية في العلم والعمل، "وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوص مَنْ يكون خبيرًا بها، وبدلالتها على الأحكام".

قال الإمام الشاطبي -رحمه الله- في الاعتصام: "سمِّي أهل البدع أهل الأهواء؛ لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها حتى يصدروا عنها، بل قدَّموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورًا فيها من وراء ذلك ... ".

فآفة أهل البدع والأهواء تقديم عقولهم فيعتقدون في الشيء أولًا بعقولهم وأهوائهم ثم يستدلون عليه؛ إما بأدلة عامة أو ضعيفة، بل قد تكون موضوعة، وإما بتحريف النصوص أو تأويلها لتوافق ما اعتقدوه أولًا، أو بأقيسة فاسدة يضربون بها في نحر النصوص الصريحة، أو غير ذلك من وسائل المروق من الدين، فهم يصدرون من العقل ثم يستدلون له.

أما منهج أهل الحق فهم ينطلقون ويصدرون من الأدلة أولًا، فما ساقهم إليه الدليل من حكم فهموه كما فهمه سلف الأمة الكرام وعملوا به وقدَّموه وعظموه، فمَنْ نظر في النصوص الثابتة، ثم تقدَّم بين يديها، أو أغار عليها بالتأويل المتعسف، أو التحريف المتكلف، وراح يفسرها مجاراة لأهواء الناس، أو مداهنة لأهل العلمنة والتغريب؛ لم يكن في الحقيقة مفتقرًا لها، معظمًا لحدودها،

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "مِن الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: ألا يقبل من أحدٍ قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولاَ وجْده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات: أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم".

أمثلة من تعظيم الصحابة للنصوص الشرعية:

لقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على الأخذ بكلامه، ويزرع في قلوب أصحابه تعظيم النصوص الشرعية وامتثالها حرفيًّا أو نحوًا من ذلك، فتارة يقول -صلى الله عليه وسلم-: "مَن توضأ مثل وضوئي هذا"، وتارة يقول: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، وثالثة يقول: "خذوا عني مناسككم"، فيأمرهم بمثلية التأسي وحرفيته، فإن عجزوا دنوا قريبًا منها بحيث يقتربوا جدًّا من المثلية والتطابق بين فعلهم وفعله.

ولقد ضرب أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- أروع الأمثلة وأصدقها في المبادرة والمسارعة لامتثال أمر الله ورسوله، وتعظيم نصوص الشرع والوقوف عند حدودهما بلا زيادة ولا نقصان، والغضب عند مخالفتها وانتهاكها، وحرصهم هذا وتعظيمهم ليس مقصورًا على ما كان واجبًا فحسب، بل تعدَّى ذلك إلى المستحبات، ويكفيهم شرفًا وفخرًا تزكية الله لهم وثناؤه عليهم.

وما ورد عن الصحابة -رضي الله عنهم- في هذا الشأن كثير يصعب حصره، فمَن ذلك: ما ورد عن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-؛ إذ لما برَّأ الله عائشة -رضي الله عنها- من خبر الإفك، قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبًدا"، وكان مسطح ممَّن وقع في شأن عائشة، وكان أبو بكر ينفق عليه قبل ذلك، فلما نزل قوله -تعالى-: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (النور:22)، قال أبو بكر: "بلى والله، إني أحب أن يغفر الله لي"، فأرجَعَ إلى مسطح النفقة، وقال: "والله لا أنزعها أبدًا" (متفق عليه).

وجاء في شأن عمر الفاروق من ذلك الكثير، فقد روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قَدَّمَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابُ مَجَالِسِ عُمَرَ كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ. فَقَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ، فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ. فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ عُمَرُ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ".

ومن تعظيم الفاروق لشأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره ما أخرجه الإمام أحمد بإسناد حسن أنه قلع ميزابًا للعباس على ممر الناس، فقال له العباس: أشهد أن رسول الله هو الذي وضعه في مكانه، فأقسم عمر: "لتصعدن على ظهري ولتضعنه في موضعه".

وفى صحيح مسلم عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، قَالَ: "كُنَّا نُحَاقِلُ الْأَرْضَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنُكْرِيهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، فَجَاءَنَا ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلٌ مَنْ عُمُومَتِي، فَقَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعًا، وَطَوَاعِيَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ أَنْفَعُ لَنَا؛ نَهَانَا أَنْ نُحَاقِلَ بِالْأَرْضِ فَنُكْرِيَهَا عَلَى الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ، وَالطَّعَامِ الْمُسَمَّى، وَأَمَرَ رَبَّ الْأَرْضِ أَنْ يَزْرَعَهَا، أَوْ يُزْرِعَهَا، وَكَرِهَ كِرَاءَهَا وَمَا سِوَى ذَلِكَ".

وأمثلة ذلك مما جاء عن الصحابة -رضي الله عنهم- كثيرة جدًّا، وعلى نهجهم سار أتباعهم ومَن تبعهم مِن أئمة السلف إلى زماننا هذا.

وللحديث بقية -إن شاء الله-.