عاجل

الوجه التكفيري عند المتكلِّمين (2)

  • 98

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره: (ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَالْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَعْرِفِ اللَّهَ تَعَالَى بِالطُّرُقِ الَّتِي طَرَقُوهَا وَالْأَبْحَاثِ الَّتِي حَرَّرُوهَا لَمْ يَصِحَّ إِيمَانُهُ وَهُوَ كَافِرٌ، فَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا تَكْفِيرُ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَوَّلُ مَنْ يَبْدَأُ بِتَكْفِيرِهِ آبَاؤُهُ وَأَسْلَافُهُ وَجِيرَانُهُ. وَقَدْ أُورِدَ عَلَى بَعْضِهِمْ هَذَا فَقَالَ: لَا تُشَنِّعُ عَلَيَّ بِكَثْرَةِ أَهْلِ النَّارِأَوْ كَمَا قَالَ -كأنه يقصد الجويني-.

قُلْتُ -أي القرطبي-: وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ جَاهِلٍ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ، لِأَنَّهُ ضَيَّقَ رَحْمَةَ اللَّهِ الْوَاسِعَةَ عَلَى شِرْذِمَةٍ يَسِيرَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَاقْتَحَمُوا في تكفير عامة المسلمين".

وقال أبو حامد الغزالي في كتابه: (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة): (ومن أشد الناس غلوًّا وإسرافًا طائفة من المتكلمين؛ كفَّروا عوام المسلمين، وزعموا أن مَن لا يعرف الكلام معرفتنا، ولم يعرف العقائد الشرعية بأدلتنا التي حررناها فهو كافر، فهؤلاء ضيقوا رحمة الله الواسعة على عباده أولًا، وجعلوا الجنة وقفًا على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواتر من السنة ثانيًا). 

وقد ذهب بعض الأشعرية إلى القول بعدم تكفير العوام بناءً على مسألة إيمان المقلد، لكن وقع في كلام بعضهم ذمّ العوام ووصفهم بالضلال؛ لعدم اعتقادهم لمسائل هي مِن خصائص المذهب الأشعري المخالفة لاعتقاد أهل السنة، والعوام فيها على الفطرة والسنة، كمسألة إثبات العلوّ لله -تعالى-، وتأثير الأسباب في المسببات، وإثبات الحكمة والتعليل لأفعال الله -تعالى-، بل وصلت البدعة والعَوَر ببعض الأشاعرة إلى القول بأن النبي -عليه السلام- والصحابة أقروا العوام على ضلالهم هذا ولم يبينوا لهم.

وقد ذكر ابن تيمية هذه المسألة في (درء تعارض العقل والنقل)، فقال: (وكذلك ذكر غير واحد من أئمة الكلام؛ من أصحاب الأشعري وغيرهم، ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورةً، وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون بإيمان العامة؛ إما لحصول المعرفة لهم ضرورة، وإما لكونِهِم حصَلَ لهم من النظر ما يقتضي المعرفة، وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة، ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم).  

ولا ريب أن صريح القرآن يدحض ما زعموه من تكفير المقلد، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يشهد بالإسلام لمَن يقر بالشهادتين، دون أن يطالبه بالنظر.

قال القرطبي في تفسيره: (بَلِ اكْتَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ كَثِيرٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَحَتَّى إِنَّهُ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ فِي ذَلِكَ، أَلَا تَرَاهُ لَمَّا قَالَ لِلسَّوْدَاءِ: أَيْنَ اللَّهُ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ ...).

وقال الغزالي في فيصل التفرقة: (فليت شعري متى نُقِل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة رضي الله عنهم إحضار أعرابي أسلم، وقوله له: الدليل على أن العالم حادث: أنه لا يخلو عن الأعراض، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث).

وما أصدق عبارة ابن عقيل في هذه القضية: (أنا أقطع أن الصحابة ماتوا ولم يعرفوا لا الجوهر ولا العرض، فإن رضيت أن تكون مثلهم فكن، وإن رأيتَ طريقة المتكلمين أولى من طريقة أبي بكر وعمر فبئس ما رأيت) (ينظر: تلبيس إبليس لابن الجوزي).

وهذا يدلنا بوضوح على اتفاق العلماء على بِدعِيّة طريقة الأشاعرة والمتكلمين في الاستدلال على وجود الخالق عز وجل، وذم العلماء لها، وما ترتب عليها من بدعٍ منكرة، وأنَّ هذه الطريقة فيها فساد كثير في وسائلها ومقاصدها. 

ويكفيك أن تعلم: أن طريقتهم تلك جَمَعَتْ بين بدعتين متخالفتين منكرتين، فجمعوا بين بدعة الخوارج في تكفير عوام المسلمين ومَنْ لم يسلك مسلكهم في النظر، وبين بدعة المرجئة؛ حيث جعلوا الإيمان هو المعرفة، فحكموا بالإيمان لمَن مات مصرًّا على غير ملة الإسلام؛ لمجرد أنه عرف الله بقلبه، وكلام بعضهم في دروسه المنشورة صريح في هذا، ويا له من موقف عجيب في تكفير الموحدين وأسلمة الكافرين! وهذا شؤم البعد عن طريقة الكتاب والسنة في الاعتقاد والاستدلال. 

ونحن لا ننكر حض القرآن على النظر والفكر والتعقل، ولكن ننكر توقف الإيمان على وجود النظر بالطرق الكلاميّة العويصة المُبْتَدَعة.

ولا يلزم مِن الأدلة التي تحض على النظر جعله شرطًا لصحة الإيمان، كما أن التقليد -أي: الإتباع- لأهل التوحيد في إيمانهم مما يُمدَح به، على خلاف زعم الأشاعرة، وقد أمرنا باتباع سبيل المؤمنين.

قال القرطبي في تفسيره: (أَثْنَى عَلَى يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ. وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ...)، فَلَمَّا كَانَ آبَاؤُهُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمُ السَّلَامُ أَنْبِيَاءَ مُتَّبِعِينَ لِلْوَحْيِ وَهُوَ الدِّينُ الْخَالِصُ الَّذِي ارْتَضَاهُ اللَّهُ، كَانَ اتِّبَاعُهُ آبَاءَهُ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ. وَلَمْ يَجِئْ فِيمَا جَاءُوا بِهِ ذِكْرَ الْأَعْرَاضِ وَتَعَلُّقَهَا بِالْجَوَاهِرِ وَانْقِلَابَهَا فِيهَا؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَا هُدَى فِيهَا وَلَا رُشْدَ فِي وَاضِعِيهَا)، وينبئنا عن ذلك عودة هؤلاء المتكلمين عن هذه الطرق الكلامية وذمهم لهذا المسلك بعد أن غاصوا في أوحاله، ورأوا فساد طريقتهم، وتمنوا موتًا على عقيدة العجائز، كما كان من الجويني والرازي ... وغيرهم، ومثل هذا الكلام في تكفير المقلِّد؛ مما يحاول الأشاعرة إخفاؤه باتهامهم لغيرهم بالتكفير على طريقة رمتني بدائها وانسلت.

قال ابن قدامة في كتاب المناظرة في القرآن: (ولا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ولا يتجاسرون على إظهارها إلا الزنادقة والأشعرية).

ويتبين من ذلك أمور، منها: الأشاعرة مضطربون اضطرابًا شديًا في باب الإيمان، وقضايا التكفير، وأن داخل صفوفهم جمهور كبير من غلاة التكفير، وأن مقالتهم في إيمان المقلد هي لازم تعريفهم للإيمان بالمعرفة، والكفر بالجهل، فعندهم مَن لم يثبِت وجود الله بالأدلة العقلية فهو جاهل وإن آمن بالله، ويلزم مِن جهله كفره، أو فسقه، أو عصيانه، أو عدم كمال إيمانه!

وفي المقابل: يشنعون على مخالفيهم برميهم بتهمة التكفير التي تلبسوا هم بها بكرة وعشيّا، وتكتمل الجرأة المذمومة حين يشيعون في غفلة من الناس أن هذا النهج الباطل هو نهج جماعة المسلمين وأئمة السنة! 

ومن مقابحهم أنهم: يوجبون التقليد في الفروع للمذاهب، ثم هم -ببدعة صلعاء- يوجبون الاجتهاد في الأصول حتى للعامي!

يتبع -إن شاء الله-.