مَن هوى فقد هوى! (2)

  • 76

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي اللهُ عنه-: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُم: طُولُ الأَمَلِ، وَاتِّبَاعُ الهَوَى، فَأَمَّا طُولُ الأَمَلِ فَيُنْسِي الآخِرَةَ، وَأَمَّا اتِّبَاعُ الهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الحَقِّ" (فضائل الصحابة للإمام أحمد).

فاتباع الهوى يُعْمِي ويُصِمُّ صاحبه عن الحق، روى مسلم في صحيحه عن حذيفة بن اليمان -رضي اللهُ عنهما- قال: سمعتُ رسول الله -صلى اللهُ عليه وسلم- يقول: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا  نُكِتَ  فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ: عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا  كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا، لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ"، فقوله: "إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ" يعني لا يعرف القلب إلا ما قَبِلَ من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية والأهواء المضرة ، فلا يفرق بين الحسن والقبيح، والخبيث والطيب، والمنكر والمعروف، إلا ما وافق هواه، أي: ما تهواه نفسه بغير إذن شرعيّ، كما قال -عز وجل-: "وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (القصص:50).

فهذا من أضل الناس، حيث عرض عليه الهدى، والصراط المستقيم، الموصل إلى اللّه وإلى دار كرامته، فلم يلتفت إليه ولم يقبل عليه، ودعاه هواه إلى سلوك الطرق الموصلة إلى الهلاك والشقاء فاتبعه وترك الهدى، فهل أحد أضل ممن هذا وصفه؟ ولكن ظلمه وعدوانه، وعدم محبته للحق، هو الذي أوجب له: أن يبقى على ضلاله ولا يهديه اللّه؛ فلهذا قال: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (تفسير السعدي).

ولقد ضرب الله للذين يتبعون الهوى مثلًا يعجز البيان عن أن يأتي بمثله: يقول -سبحانه-: "وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الأعراف:176)

ومَن اتبع هواه طبع الله على قلبه كما قال -سبحانه-: "وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ" (محمد:16).

وقال الإمام الشاطبي في معرض ذمه للبدع: "إنه اتباع للهوى؛ لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع لم يبقَ له إلا الهوى والشهوة، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى، وأنه ضلال مبين؛ ألا ترى قول الله -تعالى-: "يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ" (ص:26)، فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده، وهو الحق والهوى.

وإذا ضل العبد باتباعه الهوى؛ فإن الشياطين تتلقفه، وقد لا يستطيع العودة إلى الحق والله المستعان! قال -تعالى-: "قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى" (الأنعام:71).

نسأل الله -تعالى- أن يمسكنا بالكتاب والسنة لا مغيرين ولا مبدلين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.