الوجه التكفيري عند المتكلمين (3)

  • 200

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد سبق لنا بيان تكفير الأشاعرة للسواد الأعظم من المسلمين المقلِّدين في إيمانهم من زمنه -صلى الله عليه وسلم- إلى أن تقوم الساعة، واليوم نتحدث عن تكفير الأشاعرة لمخالفيهم من أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح والأئمة المعتبرين، الذين يقررون أن الإيمان حقيقة مركبة، وأن النظر ليس بواجب، والذين يثبتون الصفات الإلهية، كما أخبر الله عن نفسه وأخبر عنه نبيه -صلى الله عليه وسلم- بلا تكييف أو تحريف، أو تمثيل أو تعطيل، خلافا للأشاعرة، قال الإمام مالك: "الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ".

والأشاعرة بذلك إنما يضللون سلف الأمة من الصحابة والتابعين والأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأبو حنيفة، والثوري، وابن عيينة، والبخاري، وتابعيهم بإحسان.

قال أبو إسحق الشيرازي إمام الأشاعرة في زمنه في شرح اللمع (1 / 111): (فمَن اعتقد غير ما أشرنا إليه من اعتقاد أهل الحق المنتسبين إلى الإمام أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه فهو كافر، ومَن نسب إليهم غير ذلك فقد كفرهم فيكون كافرًا بتكفيره لهم؛ لما روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ما كفر رجل رجلا إلا باء به أحدهما".

ولا فرق عندهم في التكفير بين كفر النوع وكفر العين، وهذا من الخلط العظيم في باب الإيمان الذي جنح بهم إلى التطرف في الإرجاء تارة، وإلى التطرف في التكفير تارة أخرى.

قال السبكي معقبًا على الإمام ابن القيم: (فهو الملحد لعنه الله، وما أوقحه، وما أكثر تجرؤه أخزاه الله!) (ينظر: السيف الصقيل ص 37).

وقد حققه الكوثري فزاد بعض ما فيه قبحًا!

وتمادى الكوثري -وهو يبث حبائل الزور، وينصب أشراك الغرور- في رسالته المسماة (تبديد الظلام المخيم من نونية ابن القيم)، فرمى ابن القيم -رحمه الله- بأَلفاظ التكفير والسب والثلب، فقال: "كافر أو حمار"، "حمار أو تيس"، "الملحد"، "الخبيث"، "الملعون" "بلغ في كفره مبلغًا لا يجوز السكوت عليه".

ويقول في ابن تيمية رحمه الله: "صار كفره مجمعًا عليه!".

ويقول: "وقع الاتفاق على تضليله وتبديعه وزندقته"، ولا تكاد تقرأ صفحة من كتابه تبديد الظلام إلا وجدتَها محشوة بسبٍّ ولعنٍ وتكفيرٍ أئمة الهدى وأعلام السلف وعلماء السنة.

وفي هذا المضمار يُصِرُّ الأشاعرة على رمي مخالفيهم من أهل السنة والحديث والأثر بأوصافٍ تشي بهذا التكفير والتضليل، ومن ذلك: تلقيبهم لمن أثبت ما عليه السلف بالحشوية، أي: رذالة الناس وأقلهم منزلة ومكانة، ومَن لا فهم لهم ولا معرفة. والمعتزلة أول مَن أطلق هذا اللقب على أهل السنة والجماعة من المحدثين والفقهاء قصدًا منهم لتحقيرهم، ثم تلقفه الأشاعرة وأكثروا من إطلاقه.

وقال الجويني في الإرشاد (ص:125): (ذهبت الحشوية المنتمون إلى الظاهر إلى أن كلام الله قديم، ثم زعموا أنه حروف وأصوات).

وقال الآمدي في غاية المرام في علم الكلام (311): (وبهذا ثبَتَ فَسادُ قولِ الحشْويَّةِ: إنَّ الإيمانَ هو التصديقُ بالجَنانِ، والإقرارُ باللسانِ، والعمَلُ بالأركانِ).

وقد ذكر الجويني في الإرشاد (ص 333): أن هذا القول الذي حكم الآمدي بفساده هو قول أصحاب الحديث، ثم صرَّح هو الآخر ببطلانه!

ويكشف السبكي في الإبهاج في شرح المنهاج (1/361) عن مراد الأشاعرة بالحشوية فيقول: (هم طائفةٌ ضَلُّوا عنِ السبيلِ وعَمِيَتْ أبصارُهم، يُجْرون آياتِ الصِّفاتِ على ظاهرِها، ويعتقِدونَ أنَّه المُرادُ)، وقد اختلف الأشاعرة في حكم تكفير مخالفيهم على قولين مشهورين عندهم كما في الفروق للقرافي (4/271).

ولك أن تعجب كل العجب أن هؤلاء الأشاعرة انطلقوا في تكفير وتفسيق مخالفيهم ورميهم بألقاب الرزاية من قول أئمة الأشاعرة واعتقادهم أن ظاهر القرآن يدعو إلى الكفر! سبحانك ربي هذا بهتان عظيم. 

قال السنوسي في شرح أم البراهين ص3 17: (أصول الكفر ستة ... التمسك في أصول العقائد بظواهر الكتاب والسنة من غير بصيرة في العقل وهو أصل ضلال الحشوية)، وقال الصاوي في تعليقه على الجلالين (3/9): (الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر)، فيا ليت شعري! أي ضلال أبعد من هذا؟!

إنهم في هذا يتهمون الرب سبحانه بإضلال عباده -تعالى الله عن ذلك-؛ لأنهم يقولون: إن الله أنزل كلامًا ظاهره يُضِل العباد ولم يبينه للناس، ويا له من عور وعمى؛ هل تكون آيات الأحكام كالمواريث وغيرها واضحة بظاهرها، وتكون آيات الاعتقاد في الله غير واضحة بظاهرها؟! 

لا يقول بهذا عاقل أبدًا، وهؤلاء قوم لعبت بهم أمواج الفلسفة اليونانية حتى نطقوا بالأغاليط العقلية والشرعية، واعتقدوها وضللوا الناس بها واختلفوا في تكفيرهم على قولين مشهورين كما في مغني المحتاج، للشربيني (4/134). 

وللحديث بقية إن شاء الله.