من أصول أهل السنة والجماعة في التعامل مع النصوص الشرعية (3)

  • 66

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

ثالثًا: عدم استشكال النص أو ظن عدم كفايته:

مِن مظاهر التعظيم للشرع: ألا نستشكل النص ونتهمه بعدم مسايرة الواقع والحوادث، بل نستشكل أفهامنا ونتهمها بالقصور، ونسأل الله تعالى الفتح والفهم من عنده.

فالتصديق واليقين بعظمة هذا الدين، وإثبات قدسية النص، وتعظيمه وإجلاله؛ هذا الذي يحقق التسليم الكامل بها، كذلك عندما يستصحب العبد أن هذا النص القرآني هو من عند الله العليم الحكيم الذي له الأسماء الحسنى، وله صفات الكمال والجلال، وعندما يستصحب العبد أن هذا هو كلام الله، وأن هذا كلام النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى؛ إذا استصحب العبد ذلك زاده تعظيمًا وتسليمًا لهذه النصوص.

وهذا يعنى عدم التنطع في البحث عن الحكمة أو العلة والتعمق في ذلك، فتلك الصفة تنافي كمال التسليم والانقياد لله، بل قد يستمرئ صاحبها ذلك فتجره إلى الاعتراض على بعض الأحكام الشرعية إلا حين يعلم الحكمة منها، فالواجب على المسلم الإمساك والتأدب مع مقام التشريع، فالله عز وجل لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.

وقد نبَّه الحافظ ابن رجب رحمه الله على خطورة هذا الأمر، وأنه من أعظم خداع الشيطان وغروره لهؤلاء، وأنه لم يزل يتلاعب بهم حتى أخرجهم من الإسلام، فإن مقالتهم هذه توجب القدح في الشريعة، وإساءة الظن بها، حيث ظنوا أنها لم تأتِ بهذا العلم النافع الذي يوجب صلاح القلوب، وقربها من علام الغيوب، وأوجب لهم الإعراض عما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الباب بالكلية، والتكلم فيه بمجرد الآراء والخواطر، فضلوا وأضلوا.

ومن صور استشكال النص زعم ظنيته وعدم قطعيته:

ودعوى ظنية النصوص وتحملها لأكثر من معنى وحاجتها إلى التأويل أو التفويض دعوى قديمة تذرع بها الكثير من أعداء الإسلام لتقرير باطلهم تارة في العقائد والأخبار، وتارة في الشرائع والأحكام، واختلس العلمانيون هذه القواعد لمعارضة الشرائع والأحكام، فكان مقتضى كلامهم أن ما يتبنونه من آراء وأقوال هي أقوال محكمة صحيحة بيِّنة، وما عارضها من نصوص الكتاب والسنة مظنون مجمل محتمل، لا يستفاد منه علم ولا حقيقة ولا بيان.

 وقد كشف شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذا الفكر، فقال ما مفاده: فيجعلون المتشابه من أقوالهم هو المحكم، وكلام الله ورسوله هو المتشابه، على خلاف طريقة أهل العلم والإيمان الذين يجعلون كلام الله ورسوله هو الأصل المحكم البيِّن الذي يعتمدون عليه، ويرجع الناس إليه عند التنازع والاختلاف.

 ولازم هذا الفكر النتائج الآتية: 

1ـ الظن بالشريعة الغراء العصماء أنها تخالف العقل الصريح، أو المصلحة المعتبرة!

2ـ اتهام النصوص بعدم البيان والوضوح والقطع في الأمور بما لا لبس فيه؛ لأن دلالتها إما محتملة لمعانٍ كثيرة والشارع لم يعيِّن لنا أحد تلك المعاني، وإنما أحالنا إلى عقولنا وآرائنا! (وهذا الصنف يسميه شيخ الإسلام بأهل التأويل)، وإما أن الشارع لم يرد منا تجاه هذه النصوص سوى قراءتها والتبرك بها، ولم يرد منا أن نفهم منها شيئًا؛ لأن معناها لا يعلمه أحدٌ سوى الله تعالى (وهم أهل التفويض)، ويشترك كلاهما في رمي النصوص بعدم البيان، وأنها ملغزة مجهولة لم يبينها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهو ما يعني إبطال الشرع بالكلية، وكلامهم هذا أولى بالإبطال؛ لأنه تكذيب لله جل وعلا، والظن به ظن السوء سبحانه القائل: "قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ . يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"، فمقتضى الآية -وغيرها كثير- أن القرآن بيِّن وواضح وظاهر، لا لبس فيه ولا إشكال كما يزعم هؤلاء، وأن دليل وضوحه أنه سبيل هداية من أقصر الطرق، وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه، ولا انحراف، وأن مَن اتبعه لا يضل ولا يشقى.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكذلك قد أزاح نبينا صلى الله عليه وسلم بالقرآن وما فيه من العجائب علل الفصحاء من أهله، وقطع به عذرهم لرؤيتهم أنه خارج عما انتهت إليه فصاحتهم في لغاتهم ونظموه في شعرهم، وبسطوه في خطبهم، وأوضح لجميع مَن بعث إليه من الفرَق التي ذكرناها فساد ما كانوا عليه بحجج الله وبيناته، ودلَّ على صحة ما دعاهم إليه ببراهين الله وآياته حتى لم يبق لأحدٍ منهم شبهة فيه" (درء تعارض العقل والنقل).

ومثل هذا يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه ربه تبارك وتعالى: "بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ"، فكان أعلم الخلق بالله تعالى وأشدهم له خشية، وأحرص الناس على إبلاغ الحق للخلق حتى كاد يهلك نفسه من عدم إيمانهم به، واقتضى الحال أن يكون أفصح الناس بيانًا وبلاغًا -وقد كان-، وتواصل مع الناس بأفصح لغة وأتمها بيانًا "وهي لغة العرب"، فلم يجعل للناس حجة بعد البلاغ المبين، ولم يسعهم إلا السمع والطاعة والامتثال، قال تعالى: "وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ".

وللحديث بقية إن شاء الله.