ولا نضيع أجر المحسنين

  • 72

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فمن أكثر الصفات مدحًا وظهورًا في سورة يوسف من صفات نبي الله يوسف عليه السلام، صفة الإحسان بأنواعه؛ سواء مع الله أو إلى خلقه، وهو في الحقيقة أثر من آثار الإحسان مع الله، فالإحسان مع الله بتمام خشيته ومراقبته لربه أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: "أن تخشى الله كأنك تراه، فإنك إن لا تكن تراه فإنه يراك".

فتمكُّن هذا المعنى في القلب وملازمته له ودوام استحضاره مِن أنفع ما يكون في صلاح القلب، وهو ملازم للإخلاص، فكأنَّ العبد بدوام مراقبته لربه انقطع عن الخلق، وأصبح شغله الشاغل أن يرضي ربه؛ لا يريد أجرًا، ولا مدحًا ولا ثناءً مِن أحدٍ غيره، وهذا هو الإخلاص، كما قيل في معناه: هو نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق، فهو معنى ووسيلة على الحقيقة لتحقيق الإخلاص.

وبالإخلاص أيضًا يوفَّق العبد للإحسان كما قال سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ ‌لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ".

فوفَّقه سبحانه وبحمده بإخلاصه للعفة، وحفظه من هذا الذنب العظيم الذي فيه غضب الله، وكذا حفظه من الإساءة لسيده الذي أحسن إليه، فجُمع له الإحسان إلى الخالق والمخلوق، وذلك ثمرة إخلاصه عليه السلام.

فمن ثمرة الإحسان العظيمة: أنها سبب لتحصيل العلم والحكمة، قال الله تعالى: "‌وَلَمَّا ‌بَلَغَ ‌أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ".

فبقدر إحسان العبد بقدر ما يحصل له من العلم والحكمة.

وفي السجن مع أهل السجن رغم الضيق والحبس تجلَّت فيه أيضًا هذه الصفة الكريمة، ولم تتغير، وهذا هو حال الصالحين المخلَصين، كما قصَّ علينا سبحانه مِن نبأ الفتيين اللذين كانا معه في السجن، فقال سبحانه وبحمده: "‌وَدَخَلَ ‌مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ". 

وكذا إحسانه إلى القوم بالرغم ما هو فيه من ظلم وضيق وسجن؛ فقام بتعبير رؤيا الملك لهم، بل وزاد على ذلك بنصحهم، ووضع الخطط لهم لتفادي سنين الجدب والقحط، وكل ذلك بغير تعنيف لهذا الفتى الذي نسي وصية يوسف عليه السلام له، وبغير اشتراط خروج من السجن، فما أكرمها من أنفس سامية أخلصها الله سبحانه وبحمده لنفسه، قال تعالى حاكيًا عن قيله لهم: "‌تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ".

وكذا وهو على خزائن الأرض وسرير الملك لم يزل محسنًا، بل سيد من سادات المحسنين عليه السلام حتى قال إخوته له وهم لا يعرفون أنه أخوهم لما رأوا من إمارات الكرم والإحسان الظاهرة عليه: "يَا أَيُّهَا ‌الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"، بل لما عرفوا أنه أخوهم يوسف قال لهم مثنيًا على ربه وناسبًا له الفضل والمِنَّة، معلِّمًا إخوته في أسلوبٍ بديعٍ راقٍ، عاقبة الإحسان الحميدة في الدنيا والآخرة، والتي مِن آثارها -ولا شك- الصبر والتقوى: "قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ ‌لَا ‌يُضِيعُ ‌أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".  

وإحسانه إليهم أيضًا بعفوه عنهم عفوًا تامًّا، كان من غير تعيير، ولا تأنيب، بل وسأل الله تعالى لهم المغفرة، ولا شك أن ذلك غاية الإحسان، وأثر من آثار الاستغناء بالله سبحانه وبحمده، "قَالَ ‌لَا ‌تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ".

كما أحسن إلى والديه بإجلاسهما بجواره على سرير الملك، وكذا في تعامله مع ربه في جميل الثناء عليه بإثبات النعمة والفضل واللطف والإحسان له سبحانه وبحمده في أسلوب تتجلى فيه كمال عبوديته، وعظيم أدبه وتواضعه لربه سبحانه وبحمده، قال تعالى: "‌وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".

فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.