‌لا تحزن إن الله معنا (1)

  • 634

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

(‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): كلمات قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر الصديق رضي الله عنه حين كان معه في الغار في رحلة الهجرة، فما أجملها مِن كلمات، جمعت من معاني التأييد والمعية، والنصر والثبات، وسبب زوال الهم والغم الشيء الكثير.

(‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا): كلمات خرجت على وجه المواساة والتثبيت في أوقات الخوف والزلزلة من صاحب الدعوة نبي الإسلام ورسول الله إلى العالمين، إلى خير أصحابه وأفضلهم على الإطلاق، وكذلك كل داعٍ يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم ويقتدي به يقول لصاحبه وأخيه في طريق الدعوة: (‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا). 

قال القرطبي رحمه الله: "هذه الآية تضمنت فضائل الصديق رضي الله عنه، روى أصبغ وأبو زيد عن ابن القاسم عن مالك: "ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا" هو الصديق، فحقق الله تعالى قوله له بكلامه، ووصف الصحبة في كتابه". 

- فإلى كل مكروب ومحزون، ومهموم ومغموم من كيد الأعداء، ومكر الليل والنهار (‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، فإن مكرهم إلى زوال وكيدهم لا يفلح.

- إلى كل مَن سلك طريق الالتزام بهذا الدين، وشرح الله صدره للتسنن بسننه وأخلاقه والقيام بواجباته ثم وجد أنواعًا من العقبات والصدود، والإعراض والأذى، ليس هناك أجمل من هذه الكلمات تواسيك، وتشد من أزرك، وتذكرك بحقيقة الأمور، وتعينك على الثبات: (‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا).

فتعالَ معي نقف هذه الوقفات مع معاني هذه الكلمات:

قال الله تعالى: "إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ‌لَا ‌تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ".

قال ابن جرير الطبري رحمه الله: "هذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة؛ فكيف به وهو مِن العدد في كثرة، والعدو في قلة؟!".

أُخرِج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة كما قال له ورقة بن نوفل في بداية الوحي: "يا ليتني فيها جذعًا، ليتني أكون حيًّا إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم»، قال: نعم، لم يأتِ رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي"، فخرج منها وهي أحب البلاد إليه، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: "ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك".

وهاجر هو وأبو بكر، وقد أعدت قريش العدة لقتلهم وطلبهم، وهو إذ ذاك ليس معه أحدٌ إلا صاحبه، فهو (ثَانِيَ اثْنَيْنِ) وفي هذا من قلة العدد وقلة النصير.

(إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ) قال السعدي رحمه الله: "أي‏:‏ لما هربا من مكة، لجآ إلى غار ثور في أسفل مكة، فمكثا فيه ليبرد عنهما الطلب،‏ فهما في تلك الحالة الحرجة الشديدة المشقة، حين انتشر الأعداء من كل جانب يطلبونهما ليقتلوهما، فأنزل اللّه عليهما من نصره ما لا يخطر على البال‏".‏

وعن أنس رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه حَدَّثَه قال: "نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه، فقال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!"، ويا لها من لحظات اجتمعت فيها أسباب الخوف والهم والحزن؛ فقد اشتد الأذى بالدعوة وأهلها حتى أرادوا قتل صاحب الدعوة!

(‌لَا ‌تَحْزَنْ): فالحزن هم غليظ بتوجع، يرق له القلب.

(‌لَا ‌تَحْزَنْ): نهي عن الحزن، وهو نهي متكرر في الكتاب والسنة للمؤمنين عن الحزن، كما قال تعالى: "وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ"، وهذا النهي جاء بعد حصول الأذى والآلام والجراحات، كما وقع في غزوة أُحد؛ فقد قُتِل سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقُتِل حمزة بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومُثِّل به تمثيلًا شديدًا، وبباقي الشهداء، والنبي صلى الله عليه وسلم نفسه شُجَّ رأسُه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقة المغفر في وجهه. 

وأما في قصة الهجرة، فكان ما وقع مِن خروج المشركين في أثره صلى الله عليه وسلم، ووصلوا إلى الغار وما بينهم وبين أن يصلوا إليهما؛ إلا أن ينظروا تحت أقدامهم، لكن الله حال بينهم وبين ذلك، فلا تحزن فإن معية الله للمؤمنين تذهب عنهم كل حزن.