الوجه التكفيري عند المتكلمين (4)

  • 141

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فنستكمل في هذا المقال الحديث عن تكفير الأشاعرة لمخالفيهم من أهل الحديث والأثر، أهل السنة والجماعة أتباع السلف الصالح والأئمة المعتبرين.

فهذه الفرقة دائمًا في اضطرابٍ شديدٍ؛ فأقوالهم مختلة، وأحكامهم معتلة، طوية معلولة، وعقيدة مدخولة، ومِن عجيب تكفيرهم: قول السنوسي فيمَن قال: إن النار تحرق، والطعام يشبع، والثوب يستر، فمَن قال "بطبعها تفعل" فلا خلاف في كفره، ومَن قال "بقوة جعلها الله فيها" كان مبتدعًا عندهم، واختلفوا في كفره! 

ومن هنا وصف الأشاعرة مخالفيهم من أهل السنة والحديث والأثر المثبتين للصفات الإلهية كما أثبتها الله لنفسه بلا تكييف أو تمثيل: كالعلو والاستواء، والنزول والكلام، بأنهم مجسمة ومشبهة، وارتكبوا مصيبة كبرى!

قال السبكي في طبقات الشافعية (5/192): (إنما المصيبةُ الكُبْرى، والداهيةُ الدهياءُ: الإمرارُ على الظاهرِ، والاعتقادُ أنَّه المرادُ، وأنَّه لا يستحيلُ على الباري، فذلك قولُ المُجسِّمةِ، عُبَّادِ الوَثَنِ الذين في قلوبِهم زَيْغٌ يَحمِلُهم الزَّيْغُ على اتِّباعِ المُتشابهِ ابتغاءَ الفِتنةِ، عليهم لعائنُ اللهِ تَتْرَى واحدةً بعد أخرى، ما أجرَأَهم على الكذِبِ، وأقَلَّ فَهمَهم للحقائقِ!).

فانظر يا رعاك الله إلى هذه اللهجة في التكفير واللعن لسلف الأمة وتابعيهم بإحسان!

والعجب: أن أهل السنة يصرِّحون بنفي التشبيه والتمثيل في صفات الله، وعدم العلم بالكيفية، ويصر هؤلاء المتمشعرة على إلصاق ذلك بهم؛ لأن الأشاعرة انطلقوا في حكمهم من قاعدة فاسدة في العقل والعرف والشرع، وهي: أن اللازم في حق المخلوق لازم في حق الله عز وجل.

ولا ريب أن هذا خلل جسيم، وشطط كبير، وشر مستطير، وانظر كيف حاكمونا إلى فهمهم السقيم المبني على علم الملاحدة (الحكماء عندهم)، وألزمونا بمعانٍ لم تلزمنا؛ وذلك لقياسهم الفاسد قياس الغائب على الشاهد.

ولو رجعنا إلى نصوص أهل السنة من التابعين ومن بعدهم، والمصنفات المشهورة المعتمدة: كالرد على الجهمية، والرد على بشر المريسي للدارمي، وكتاب التوحيد لابن خزيمة، وكتاب التوحيد لابن منده، والشريعة للآجري، وشرح أصول اعتقاد أهل السنة للالكائي، وغيرها، تجدهم يقررون الأقوال التي يصفها أئمة الأشاعرة بالتشبيه والتجسيم!

ولقد ذهب العز بن عبد السلام إلى أبعد مِن هذا، فنسب بعض الصحابة إلى التجسيم! واعترف بأن التجسيم مما تعم به البلوى، ثم يأتي بعد ذلك مَن يزعم أن الأشاعرة أكثر الأمة! 

وفي هذا أقوى دليل على بُعْد المذهب الأشعري عن مذهب السلف، وأن خلافهم معهم خلاف جوهري، والعجب: أن يزعم الأشاعرة بعد ذلك أنهم أهل السنة! وهم الذين وصفوا كتاب التوحيد لابن خزيمة (ت: 311هـ) -رحمه الله- بكتاب الشرك!

قال الرازي في التفسير الكبير (9/582): (وَاعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ أَوْرَدَ اسْتِدْلَالَ أَصْحَابِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ: "بِالتَّوْحِيدِ"، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ كِتَابُ الشِّرْكِ! وَاعْتَرَضَ عَلَيْهَا، وَأَنَا أَذْكُرُ حَاصِلَ كَلَامِهِ بَعْدَ حَذْفِ التَّطْوِيلَاتِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مُضْطَرِبَ الْكَلَامِ، قَلِيلَ الْفَهْمِ، نَاقِصَ الْعَقْلِ!)؛ فانظر إلى الرازي الذي وضع كتابًا في السحر، كيف يصف كتاب التوحيد بالشرك؟!

وكتاب التوحيد كل ما فيه آية أو حديث، وصاحبه -رحمه الله-، كان إماما في الحديث، وأصول العقائد التي قررها ابن خزيمة في كتابه هي في مجملها العقيدة التي عليها أئمة الهدى من العلماء المتبوعين قبله: كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والثوري، وابن عيينة، والبخاري، وغيرهم كثير، وابن خزيمة كان يشرح تلك العقيدة التي أجمع عليها العلماء قبله، وتلقاها هو عنهم؛ ولذا كان حريصًا على التأكيد على إجماعهم في عددٍ مِن المواطن، ولو رجعنا إلى كتب أولئك العلماء نجدها متطابقة مع ما ذكره ابن خزيمة في الجملة. 

وكذلك الحال في الأئمة المعاصرين له أو الذين جاءوا بعده: كالبخاري، والصابوني، وعبد الله ابن الإمام أحمد، والدارقطني، وابن عبد البر، والسمعاني، والأصفهاني، وابن جرير الطبري، إلخ؛ كل هؤلاء قرروا ما قرره ابن خزيمة في صفات الله، ولم يختلفوا عنه في شيءٍ منها، وهذا ما أدركه الكوثري، فجعلهم كلهم ضمن المجسمة والمشبهة، فقال في مقدمته لكتاب: الأسماء والصفات للبيهقي: (فدونَك كتابَ الاستقامةِ لخُشَيشِ بنِ أَصْرَمَ، والكتُبَ التي تُسمَّى السُّنَّةَ لعبدِ اللهِ وللخَلَّالِ، ولأبي الشيخِ، وللعسَّالِ، ولأبي بكرِ بنِ عاصِمٍ، وللطَّبَرانيِّ، والجامعَ، والسُّنَّةَ والجماعةَ لحربِ بنِ إسماعيلَ السيرجانيِّ، والتوحيدَ لابنِ خُزَيمةَ، ولابنِ مَندَهْ، والصِّفاتِ للحَكَمِ بنِ مَعْبَدٍ الخُزاعيِّ، والنَّقْضَ لعُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارِميِّ، والشريعةَ للآجُرُّيِّ، والإبانةَ لأبي نَصرٍ السِّجْزِيِّ، ولابنِ بَطَّةَ، ونَقْضَ التأويلاتِ لأبي يَعْلَى القاضي، وذَمَّ الكلامِ والفَاروقَ لصاحبِ مَنازلِ السائرينَ ... تجِدُ فيها ما يَنبِذُه الشَّرعُ والعَقلُ في آنٍ واحدٍ، ولا سِيَّما النقضَ لعُثمانَ بنِ سعيدٍ الدَّارميِّ السِّجْزِيِّ المُجسِّمِ!).

وقد تتابع عددٌ مِن الأشاعرة في عصرنا على تأكيد ذلك الذم لكتاب ابن خزيمة، وفي المقابل يأتي بعض المعاصرين من المنتسبين للمذهب الأشعري، وبكل فجاجة ينسب التفويض إلى ابن خزيمة، ويدعي أنه ممَّن ينسبه إلى السلف! (ينظر: القول التمام بإثبات التفويض مذهبًا للسلف، سيف العصري، ص 179)

ومن غرائبه أيضًا: أنه يجعل ابن خزيمة والرازي كليهما ممَّن يقول بالتفويض، وينسبه إلى السلف، مع أن الرازي يحكم على ابن خزيمة بأنه يؤلف في الشرك، ومخالف لمنهج الحق!  

ومما يرد به على فرية الأشاعرة هنا: أن أئمة المذهب الأشعري المؤسسين له: كالأشعري، والباقلاني يصرِّحان بإثبات صفة العلو، وعددٍ مِن الصفات الذاتية: كاليدين، والوجه، ونحوهما (ينظر: الإبانة، ورسالة إلى أهل الثغر لأبي الحسن الأشعري، والإنصاف للباقلاني).

وفي الختام: فإن الأشاعرة في تكفير غيرهم بين مقلٍ ومستكثرٍ، ولديهم تناقض شديد في هذه المسألة، وما نخشاه من خلال ما يعلو من أصوات في زماننا، أن تعود تلك النزعة التي لاحت بوادرها بالظهور والإقصاء، ورمي المخالف بألقاب التكفير والتبديع: كالنابتة، والوهابية!

فالكيس الكيس، والعدل العدل، ولا تكونوا ممَّن رمتني بدائها وانسلت؛ وإلا فبالفعل لقد هزلت … !