الملة الإبراهيمية (2) ثناء الله تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام

  • 163

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

أولًا: إبراهيم أمة: 

قال الله تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). 

(‌أُمَّةً): أي: يعدل وحده جماعة فيما رزقه الله من إيمان وثبات وشِيَم. 

(قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ): أي: قائمًا بأمر الله تعالى، مائلًا إلى ملة الإسلام ميلًا لا يزول عنه. 

قال ابن القيم رحمه الله: "إن الله أثنى على إبراهيم خليله بقوله: 

1- (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً) الآية، فهذه أربعة أنواع من الثناء، افتتحها بأنه هو القدوة الذي يؤتم به.

قال ابن مسعود: (الأمة: المعلم للخير)، وهي فعلة بضم الفاء من الائتمام كالقدوة، وهو الذي يقتدَى به.

والفرق بين (الأمة) و(الإمام) من وجهين: 

أحدهما: أن (الإمام) كـل مـا يـؤتـم بـه، سواء كان بقصده وشعوره أو لا، ومنه سمي الطريق إمامًا، كقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ . ‌فَانْتَقَمْنَا ‌مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ)، أي: بطريق واضح لا يخفى على السالك، ولا يسمى الطريق أمة.

الثاني: أن "الأمة" فيه زيادة معنى، وهو الذي جمع صفات الكمال من العلم والعمل، بحيث بقي فيها فردًا وحده، فهو الجامع لخصال تفرقت في غيره، فكأنه باين غيره باجتماعها فيه، وتفرقها أو عدمها في غيره، ولفظ: (الأمة) يشعر بهذا المعنى؛ لما فيه من الميم المضعَّفة الدالة على الضم بمخرجها وتكريرها، وكذلك ضم أوله، فإن الضمة من الواو ومخرجها ينضم عند النطق بها، وأتى بالتـاء الدالة على الوحدة: كالغرفة واللقمة، ومنه الحديث: "إن زيد بن عمرو بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده"، فالضم والاجتماع لازم لمعنى الأمة، ومنه سميت الأمة التي هـي آحاد الأمم؛ لأنهم الناس المجتمعون على دين واحد، أو في عصر واحد.

2- قوله: (قَانِتًا لِلَّهِ): قال ابن مسعود: "القانت: المطيع"، والقنوت يفسَّر بأشياء كلها ترجع إلى دوام الطاعة.

3- قوله: (حَنِيفًا): الحنيف المقبل على الله. ويلزم من هذا المعنى ميله عما سواه، فالميل لازم معنى الحنيف؛ لا أنه موضوعه لغة. 

4- قوله: (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ): والشكر للنعم مبني على ثلاثة أركان: الإقرار بالنعمة، وإضافتها إلى المنعم بها، وصرفها في مرضاته، والعمل فيها بما يجب؛ فلا يكون العبد شاكرًا إلا بهذه الأشياء الثلاثة. 

والمقصود: أنه سبحانه مدح خليله بأربع صفات كلها ترجع إلى العلم، والعمل بموجبه، وتعليمه ونشره، فعاد الكمال كله إلى العلم والعمل بموجبه، ودعوة الخلق إليه".

أجل! لقد كان إبراهيم عليه السلام أمة في إيمانه وعبوديته الله وشكره. 

أمة في ثباته على الحق، وصبره على أذى قومه وظلمهم.

أمـة في حلمه، وسعة صـدره، ولين جانبه، وحسن خلقه، وقوة حجته. 

أمة في تبرئه من المشركين، وعدم موالاتهم، وتميزه عنهم.

أمـة في تمام تجرده، وشدة إذعانه، وانقياده لأمر الله تعالى في جميع أموره. 

ثانيًا: إبراهيم خليل الله:

قال تعالى: ‌وَمَنْ ‌أَحْسَنُ ‌دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا).

- الخلة: هي غاية المحبة، وسمي الخليل خليلًا؛ لأن محبته تتخلل القلب فلا تدع فيه خللًا إلا ملأته.

ولم ينل هذه المنزلة إلا إبراهيم عليه السلام والمصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، روى مسلم بسنده إلى جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه مرفوعًا: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلًا، كما اتخذ إبراهيم عليه السلام خليلًا، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلًا؛ لاتخذت أبا بكر خليلًا".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا: "إني أبرأ إلى كل خليل من خلته، ولو كنت متخذًا خليلًا؛ لاتخذت أبا بكر خليلًا، وإن صاحبكم خليل الله"، وأخرج البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال: إن معاذا لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، فقال رجل من القوم: لقد قرت عين أم إبراهيم".

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: "وقوله: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)، هذا من باب الترغيب في اتباعه؛ لأنه إمـام يـقـتـدى به، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب بـه العباد له، فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه، كما وصفه به في قوله: (وَإِبْرَاهِيمَ ‌الَّذِي ‌وَفَّى)، قال كثيرون من السلف: أي: قام بجميع ما أمر به، ووفَّي كل مقام من مقامات العبادة، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير، ولا كبير عن صغير، وقال تعالى: (وَإِذِ ‌ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، وقال تعالى: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ ‌كَانَ ‌أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ . وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).   

وإنما سمي خليل الله لشدة محبة ربه عز وجل له؛ لما قام له من الطاعة التي يحبها ويرضاها؛ ولهذا ثبت في الصحيحين، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال: "أمـا بعـد، أيها الناس، فلو كنت متخذًا من أهـل الأرض خليلًا لاتخذت أبا بكر بـن أبي قحافة خليلًا، ولكن صاحبكم خليل الله"، وجاء من طريق جندب بن عبد الله البجلي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله اتخذني خليـلًا، كما اتخذ إبراهيـم خليلًا".

ثالثًا: إبراهيم أبو الأنبياء:

أخبر الله تعالى أنه منذ بعث نوحًا عليه السلام لم يرسل بعده رسولًا ولا نبيًّا إلا من ذريته، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن، لم ينزل من السماء كتابًا ولا أرسل رسولًا، ولا أوحى إلى بشر من بعده، إلا وهو من سلالته، فقال عـز وجـل: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ‌فَمِنْهُمْ ‌مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)، وقال سبحانه في شأن إبراهيم عليه السلام: (وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا ‌فِي ‌ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). 

وللحديث بقية إن شاء الله.