ذلكم الله عز وجل

  • 50

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد أخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ جَرِيرٍ وأبُو القاسِمِ البَغَوِيُّ، والطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدُويَهْ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِن طَرِيقِ أبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الأقْرَعِ بْنِ حابِسٍ: "أنَّهُ أتى النَّبِيَّ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إلَيْنا فَلَمْ يُجِبْهُ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، إنَّ حَمْدِي زَيْنٌ، وإنَّ ذَمِّي شَيْنٌ، فَقالَ: ذاكَ اللَّهُ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: "إنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِن وراءِ الحُجُراتِ"، قالَ ابْنُ مَنِيعٍ: لا أعْلَمُ رَوى الأقْرَعُ مُسْنَدًا غَيْرَ هَذا" (الدرر المنثور للسيوطي رحمه الله).

والشاهد: رد وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم للذي قال له: إن مدحي زين؛ يعني إذا مدحتك فذاك شرف ومكانة لك، فمدحي يزينك؛ فأنت الممدوح، وذمي شين؛ يعني إذا ذممتك وعبتك فقد نالك من السوء والمعابة ما نالك؛ فأنت المذموم! فقال له صلى الله عليه وسلم: ذلك الله. وفي رواية: ذلكم الله عز وجل.

فهو سبحانه على الحقيقة الذي مدحه هو الزين، وهو عين الشرف والكرامة، وإذا ذم أحدًا فهذا عين النقص والمهانة؛ لذلك على العبد أن لا يبالي بمدح أحد ولا ذمه أيًّا ما كان إلا الله وحده سبحانه، وذلك يحصل من استحضار العبد على الدوام عظمة وجلال وكمال ربه سبحانه وبحمده، فيغيب بهذا الشهود عن كل أحدٍ سواه كأنه لا يرى الناس، فإذا امتلأ القلب بهذا الإله العظيم الجليل فليس ثَمَّ مكان لغيره، فليس له سبحانه سمي، قال سبحانه: "رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا".

فهو سبحانه ليس له سمي أي: ليس له مثيل، ولا مشابه، ولا كفو، بل هو رب السماوات والأرض وما بينهما، العلي العظيم، الذي له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، فحق أن يفرد وحده بالعبودية وبالتوجه والقصد والطلب، والرغبة والرهبة، بل ويصبر العبد على تحقيق عبوديته، ويجاهد نفسه على ذلك؛ ليصل إلى رضا ربه العزيز الرحيم سبحانه وبحمده، ولن يصل إلى ذلك إلا بعونه وتوفيقه وتسديده، فيستعان به على طاعته، ويستعاذ به من سخطه كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال: "يا أبا بكرٍ، لَلشِّركُ فيكم أخْفى من دبيبِ النَّملِ والذي نفسي بيدِه، لَلشِّركُ أخْفى من دَبيبِ النَّملِ، ألا أدُلُّك على شيءٍ إذا فعلتَه ذهب عنك قليلهُ و كثيرهُ؟ قل: اللهم إني أعوذُ بك أن أشرِكَ بك وأنا أعلمُ، وأستغفِرُك لما لا أَعلمُ" (صحيح الأدب المفرد).

وأعظم ما يعين على استحضار عظمة الله سبحانه وبحمده: قراءة القرآن وإقبال القلب عليه بالتدبر والتفهم لمعانيه، فحينها يمتلأ القلب ويرتوي بمعاني الجلال والعظمة والكمال لرب الأرض والسماوات، وكذا السنة النبوية الصحيحة؛ فهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه سبحانه وبحمده، وكذا كثرة الدعاء والإخبات والانكسار لله تعالى؛ لصلاح القلب وهدايته، وكذا إدامة الصبر والمجاهدة والمراقبة، وحسن الظن بالله، والله تعالى قريب مجيب.

وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.