لا تحزن إن الله معنا (2) الحزن غير مأمور به، بل مأمور بدفعه

  • 73

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فقد قال ابن القيم رحمه الله: "اعلم أن الحزن من عوارض الطريق، ليس من مقامات الإيمان، ولا من منازل السائرين؛ ولهذا لم يأْمر الله به في موضع قط ولا أَثنى عليه، ولا رتَّب عليه جزاءً ولا ثوابًا، بل نهى عنه في غير موضع، كقوله تعالى: "وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ"، وقال تعالى: "وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضِيقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ"، وقال تعالى: "فَلا تأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ"، وقال: "إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعنَا"، فالحزن هو بلية من البلايا التي نسأَل الله دفعها وكشفها، ولهذا يقول أهل الجنة: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحزَن"، فحمدُه على أن أذهب عنهم تلك البلية ونجاهم منها.

وفى الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: "اللَّهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال".

إلى أن قال: والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحزن مما يستعاذ منه؛ وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: "إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا"، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التي يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأْمورًا بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات.

ثم قال: فهذه المراتب من الحزن لا بد منها في الطريق، ولكن الكيس مَن لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه، وفي حصوله عن الفكرة في الأسباب التي يدفعها به؛ فأَورثها الحزن، وإن كانت نفسًا كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها، فإن علمت منه مخرجًا فكرت في طريق ذلك المخرج وأسبابه، وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت في عبودية الله فيه، وكان ذلك عوضًا لها من الحزن؛ فعلى كل حال لا فائدة لها في الحزن أصلًا. والله أعلم" (طريق الهجرتين).

قال الشيخ السعدي رحمه الله في فوائد الآية: "وفيها: أن الحزن قد يعرض لخواص عباد الله الصديقين، مع أن الأولى -إذا نزل بالعبد- أن يسعى في ذهابه عنه؛ فإنه مضعف للقلب، موهن للعزيمة" (تفسير السعدي).

ومعية الله للمؤمنين خير لهم من كل ما فقدوه، ومن كل ما نزل بهم من هموم وآلام، وهو عز وجل معهم بتأييده ونصره وحفظه، يتولاهم ويثبتهم ويعينهم، وهو حسبهم وكافيهم.

قال ابن القيم رحمه الله: "مَن عرف الله أحبه ولا بد، ومن أحبه انقشعت عنه سحائب الظلمات، وانكشفت عن قلبه الهموم والغموم والأحزان، وعمر قلبه بالسرور والأفراح، وأقبلت إليه وفود التهاني والبشائر من كل جانب، فإنه لا حزن مع الله أبدًا؛ ولهذا قال تعالى حكاية عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قال لصاحبه أبى بكر: "لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا"؛ فدل أنه لا حزن مع الله، وأن مَن كان الله معه؛ فما له وللحزن؟! وإنما الحزن كل الحزن لمَن فاته الله، فمَن حصل الله له؛ فعلى أي شيء يحزن؟! ومَن فاته الله؛ فبأي شيء يفرح؟!" (طريق الهجرتين).

وأما ثمرة هذه المعية للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فهي أربعة أمور، كل واحدة منها نصر عظيم:

١- (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ): وهذه السكينة، هي: الثبات والطمأنينة والسكون.

قال الشيخ السعدي في فوائد الآية: "وفيها فضيلة السكينة، وأنها من تمام نعمة الله على العبد في أوقات الشدائد والمخاوف التي تطيش بها الأفئدة، وأنها تكون على حسب معرفة العبد بربه وثقته بوعده الصادق وبحسب إيمانه وشجاعته" (تفسير السعدي).

٢- (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا): وهم الملائكة الكرام.

٣- (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى): فخذلهم، ولم يتم لهم مقصدهم وردهم عنهما.

4- (وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا): كلماته القدرية والدينية؛ فدين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان، بالحجج الواضحة، والآيات الباهرة والسلطان الناصر" (انظر: تفسير السعدي)