إلى المعذبين بالغرق في التفاصيل!

  • 107

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛

فتمضي الحياة بنا سريعًا يسلمنا عام إلى عام، وعقد إلى عقد، يتسلل العمر من بين أيدينا سريعًا، عمرٌ قصيرٌ وكلما قلَّ الشيء عزَّ وغلا ثمنه؛ ولأن العمر قصير وهو أغلى ما نملك، كان لا بد من إنفاقه واستثماره على أحسن وجه.

كثير منا يمضي به قطار العمر وهو غارقٌ فيما لا جدوى منه، يدور في حلقات لا تنتهي من التفاصيل التي تشغل تفكيره، والتي تستهلك أثمن ما يملك، وهو عمره.

تواجه الكون أيها العبد الضعيف بجسم لين طري ٧٥% منه من الماء، وكل ما حولك من الكون تقريبًا أكثر صلابة من جسدك؛ جسدك الذي لا يتأثر فقط بالأخطار المادية، بل يتأثر بالأخطار المعنوية، فالنفس تمرض كما يمرض الجسد، وربما كان ألم النفس أشد من ألم الجسد، وربما كان ألم النفس بابًا لألم الجسد.

بعضنا يصل إليه خبر عن جريمة من الجرائم فيظل يبحث عن تفاصيلها أيامًا، ويسمع عشرات الروايات حولها، ثم يعيد النظر للمشهد إن كان مصورًا عشرات المرات ثم يتعجب حين تتأزم نفسه ويقترب من الاكتئاب، وقد كان يكفيه أن يسمع القدر الذي يتعظ به، أو ما يعينه على النصيحة وإصلاح ما أفسد الناس.

يدخل أحدهم في خصومة فيجلس جلسات تلو جلسات يحكي ويشكي، حتى تعتمل نفسه وتتعبأ من أُناسٍ هم أقرب الناس إليه؛ يشكو ويكرر التفاصيل حتى يبالغ ويصدِّق نفسه، ويتحول كل سوء ظن عنده إلى حقيقة راسخة في نفسه، وحتى يصبح خصمه وكأنه "المادة الخام للشر!"، وربما انزلق مزالق التعدي على أموال الناس وأعراضهم.

يتزوج ويضع نصب عينيه عيوب شريك حياته لا يرى غيرها، فيحصيها ويحفظها ثم يربيها وينميها حتى لا يكاد يرى في شريك حياته خيرًا؛ فقد امتلأت عيناه بالنظر للعيوب وتفاصيلها، وتكرار النظر لها حتى لم تعد هناك مساحة لرؤية مميزات شريك حياته.

يشارك في نشر الخير والتعاون على البر والتقوى فينزلق سريعًا للحديث عن السلبيات، وجوانب القصور، ويغرق في تفاصيل أخطاء العاملين، ويكررها حتى تتشبع نفسه بأن الواقع أليم، ولا أمل في الإصلاح حتى يترك ما بين يديه من خير، ويصير هو من جملة المعرقلين للعمل، ومن سلبياته!

يسمع مآسي المسلمين في كلِّ مكان ما بين مشرد ومهجر وقتيل، فيظل ليله ونهاره يتابع تلك الأخبار ويسمعها مِن مصادر متعددة حتى لا يجد وقتًا يعمل فيه على نصرة أولئك المستضعفين، ولا تقديم يد العون لهم، وحقيقة الأمر أنهم يحتاجون كثيرًا من دعمك، وقليلًا من حزنك، بل ربما غفل عن جاره الذي لا يكاد يجد ما يسد به جوع أبنائه.

يجلس مع خلانه أو أقاربه أو زملاء العمل يتبادلون أطراف الحديث، ثم يعود للبيت ليحلل العبارات والكلمات ويشغل فكره بما وراء الكلمات ثم يأتيك بعد ذلك ليلومك على كلمة خرجت منك عفو الخاطر.

إلى هذا المعذب بالغرق في التفاصيل ... هوِّن عليك، وارفق بنفسك، ولا تعرِّض نفسك لما لا تطيق، ثم تتساءل: لماذا يغزو الحزن قلبي؟ يغزو الحزن قلبك؛ لأنك لا تسمِعه ولا تريه إلا ما يُحزِن.

يحجب الله عنك كثيرًا من التفاصيل؛ لأنك لو اطلعت عليها فسدت حياتك؛ رحمة منه عز وجل وعلمًا منه بما يصلحنا.

حجب الله عن عينك أشياء ربما لو شاهدتها لتوقفت حياتك؛ تخيل لو أنك ترى عالم الجن بأعاجيبه، هل كنت تجلس قرير العين؟!

وتخيل لو أنك ترى ذرات الغبار التي تملأ الجو حولك كيف كنت ستتنفس؟!

وتخيل وأنت ترفع كوب الماء تريد أن تشرب فترى ملايين الكائنات الدقيقة تسبح أمام عينك؛ هل سيطيب لك شراب؟!

وحجب عن سمعك أشياء ربما لو سمعتها لبتَّ مذعورًا أو مجنونًا؛ فتخيل أن تسمع تفاصيل كلام جيرانك وجيران جيرانك، وأصوات مناجاة الحيوانات لبعض، وتسمع تفاصيل طقطقات المحركات، واهتزاز أصوات الشجر، وتلاطم الأمواج من بعيد، أو تسمع صوت سريان الدم في عروقك كالأنهار، أو صوت نبضات قلبك كقرع الطبول الذي لا ينقطع ليلًا أو نهارًا!

بل تخيل أنك تسمع أصوات المعذبين في قبورهم؛ هل كان يطيب لك عيش؟!

يحتاج الإنسان أن يعرف من التفاصيل القدر الذي يجعله يعلم مكمن الخطر والضرر، ثم يكون همه بعد ذلك تجنب الخطر وعلاج الضرر، ثم يتغافل عن كثيرٍ من التفاصيل. 

كما يحتاج الإنسان أن يطلع نفسه على الجوانب الإيجابية في الحياة، فيتفكر في صفات شريك حياته الإيجابية، ولحظات الود والصفاء، ولا يكون همه تتبع وإحصاء العيوب، فمن منا بلا عيب!

ويحتاج لرؤية ما ترتَّب على تعاونه مع إخوانه من خيرات وطاعات تقرَّب الناس بها لله، وكان سعيه وإخوانه سببًا فيها.

يحتاج أن يرى بسمات مَن ساهم في تخفيف معاناتهم.

يحتاج أن يسمع ذلك الطفل يردد آيات القرآن صحيحة بعد أن أمضى معه الشهور يلقنه النطق الصحيح؛ فكل هذا مما تستبشر به النفس وتهدأ، وتجدد به العزم والهمة.

نحتاج أن تكون معرفة التفاصيل بالقدر الذي يكون وقودًا للعمل، ثم نقبل الود ممَّن أبداه لنا، ونشارك ونتعاون على الخير ولو به سلبيات، ونثني على شريك حياتنا، ونعلمه أننا نرى ميزاته، ونرددها على مسامعه، ونقبل عذر مَن اعتذر، ونغض الطرف عن العثرات، ولا نعذب أنفسنا بملاحقة التفاصيل.

كثير من الأخبار السيئة والأخطار تكفي فيها المعرفة العابرة ثم بذل الجهد في العلاج والاستعداد، والاستماع لأهل العلم والخبرة والدراية، "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا".

كثير من الأنفس الشريرة علاجها في التجاهل والابتعاد، "وأعرض عن الجاهلين".

كثير من مشاكل الخلطة مع الأصحاب والأحباب علاجها: التغافل.

ليس الغبي بسيد في أهله                لكن سيد أهـلـه المتغـابي

كثير من الخلافات التي تشعر فيها بالظلم، علاجها: كظم الغيظ، والعفو "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس"، وسيتبقى لك بعد ذلك نوعان من المشاكل: مشاكل تُحل، ومشاكل تُدار.

فأما التي تُحل: فأعمل فيها فكرك، واستعن بالله، ولا تدر في حلقة مفرغة، ولا تستهلك نفسك في تفاصيل ترددها عشرات المرات كل يوم دون جدوى؛ فاستعن بالله ولا تعجز، واشتر نفسك ووقتك الثمين ببعض الحزم وبعض التنازل، وبعض البُعد أحيانًا.

وأما المشاكل التي تدار: فهي مشاكل يستعصي حلها، فلا تحترق من أجلها، ولا تدخل في دائرة اجترار التفاصيل العقيمة؛ حددها وحاول أن تقلل من آثارها، فقد يضطر الإنسان أحيانًا أن يتعايش مع بعض الألم، ولكن من المهم أن تتصالح مع نفسك حول تقبل هذا الألم، وألا تترك نفسك هي الأخرى ترثى لحالك، وتتألم أنك تتألم، بل حاصر الألم بنفس متفهمة لطبيعة الدنيا وكدرها.