أولوية حياة

  • 78

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فمِن الغايات الكبرى التي يسعى إليها الإنسان في رمضان: الفوز بالعتق من النار، والعتق من النار يجب أن يكون أولوية أولى في حياة المسلم العاقل في رمضان، بل وفي بقية أيام الحياة؛ فالعتق من النار ضمان لمستقبل الإنسان الأبدي بخلاف المغفرة التي هي محو لماضي الإنسان في وقتٍ ما قد يتبعه وقوع فيما يستوجب النار بعدها.

وفرص العتق من النار في رمضان كثيرة جدًّا كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إِنَّ لِلَّهِ ‌عِنْدَ ‌كُلِّ ‌فِطْرٍ عُتَقَاءَ، وَذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ" (رواه ابن ماجه، وقال الألباني: "حسن صحيح")، وقوله أيضًا: "وَلِلَّهِ ‌عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ ‌فِي ‌كُلِّ ‌لَيْلَةٍ" (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني).

فهذه الثلاثون فرصة في كل ليلة وعند كل فطر من رمضان ليكون الإنسان منا من عتقاء الله من النار هي ضمان حقيقي لمستقبله الأبدي؛ تستوجب منه الحرص على ترتيب أولوياته، بل وتعلمه ذلك السلوك الحياتي اللازم له طيلة وجوده في الحياة بأن يكون في كل أعماله وحركاته وتصرفاته حريصًا على ضمان مستقبله الحقيقي الأبدي بنجاته من النار وإرضائه للمَلِك العَلَّام في كل تصرفاته؛ لا أن يكون باحثًا في مستقبله عن مجرد تحصيل الشهوات التي سرعان ما تنقضي بمرور الساعات بأي طريقة، والتي قد تدفعه إلى ولوج النار إن لم يضبطها بهذا المفهوم؛ مفهوم العتق من النار.

فمفهوم الحرص على النجاة من النار يضبط بوصلة تصرفات الإنسان منا، وبوصلة سلوكياته في تلك الحياة وهذا أمر عظيم كما جاء في حديث معاذ رضي الله عنه قال: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ. قَالَ: "لَقَدْ ‌سَأَلْتَ ‌عَنْ ‌عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ" (رواه أحمد، وقال الألباني: "صحيح لغيره").

فهذا المفهوم يُترجم في كل أفعال الإنسان إن تمكَّن وترسَّخ عنده بالإجابة عند كلِّ تصرفٍ مِن تصرفاته عن سؤال: لماذا لن نفعل هذا؟ لأن هذا حرام يقرِّبنا من النار.

ولماذا نفعل هذا؟ لأن هذا يباعدنا عن النار، ويقرِّبنا من الجنة.

وسنجد حينئذٍ رب الأسرة يمتنع عن التعامل بالربا، ويخاف من وضع أمواله في مؤسسات ربوية؛ بالرغم من الوضع الاقتصادي الضاغط؛ لأن هذا الفعل يقربه من النار.

وسيمتنع حينئذٍ الشاب أو الفتاة عن إقامة علاقات محرمة هادمة للقِيَم والأخلاق في المجتمع خوفًا من ولوج النار، وسيمتنع النفعيون من العملاء عن المكر ببلادهم الإسلامية بحثًا عن شهواتهم المادية؛ خوفًا من عذاب النار.

وسيتقي الموظف ربه في عمله، ويمتنع عن الإهمال في عمله أو الإفساد فيه، أو أخذ الرشوة وتعطيل مصالح الناس أو ظلمهم؛ لأن هذا يقربه من النار، إلخ.

وهكذا بضبط هذه الأولوية في حياتنا تنصلح أحوالنا وأحوال مجتمعاتنا، وتفوز حينئذٍ بسعادة الحاضر والمستقبل، لكن هذه الأولوية تحتاج إلى تطبيق واضح، وقدوة عملية من الأسرة، والاستفادة من شهر رمضان في ذلك لترسيخ هذا المفهوم في وجدان الأجيال، وجعله قيمة مؤثرة في السلوك طيلة العام، وذلك مثلًا: بالحرص في وقت الإفطار حرصًا جماعيًّا من كلِّ أفراد البيت باستغلال هذا الوقت الثمين في الدعاء والتضرع لله للعتق من النار، فللصائم عند فطره دعوة لا ترد، ولله عند كلِّ فطر عتقاء كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالأم في المنزل تهتم بذلك الوقت أمام بناتها، ولا تضيع أولوية الوقت هذا في إعداد طاولة الطعام؛ فهذا مؤثِّر فيهن، والأب يهتم بالنزول للمسجد مع أولاده، والحرص على الدعاء والتضرع أمامهم وعدم الانشغال في ذلك الوقت بالبحث عن طعام وشراب أو خلافه؛ فهذا أيضًا مؤثِّر فيهم، وهكذا يُكرس في أذهان أفراد الأسرة أهمية مراعاة الأولويات، ويغرس فيهم قيمة الخوف من عذاب الله في كلِّ مناحي الحياة، ويدفعهم إلى تعديل سلوكياتهم في الحياة طبقًا لتلك الأولوية الكبرى برقابة ذاتية مستمرة لرب البرية، وبلا حاجة إلى وضع رقابة لصيقة لا تستطيع أن تلاحقهم في معترك الحياة المستمرة.