عاجل
  • الرئيسية
  • المقالات
  • الدِّين إبراهيمي بين الحقيقة والضلال (64) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (3)

الدِّين إبراهيمي بين الحقيقة والضلال (64) الدِّين الإبراهيمي الحق يستلزم حجَّ بيت الله الحرام وقصده (3)

  • 84

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛  

فقال الله تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ. فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران: 96-97).

قال ابن كثير رحمه الله: "وأما الاستطاعة فأقسام: تارة يكون الشخص مستطيعًا بنفسه، وتارة بغيره، كما هو مقرَّر في كُتُب الأحكام.  

(قلتُ: المستطيع بغيره هو العاجز عن الحج بنفسه مع كونه يملك المال، وهو الذي يُسَمَّى: المعضوب؛ فهذا يجب عليه أن يحجِّجَ غيره؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك واعتمر، وحديث الخثعمية التي سألت النبي صلى الله عليه وسلم: إن أبي شيخ كبير لا يثبت على الراحلة، فهل يجزي أن أحج عنه؟ قال: نعم).

ورَوَى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مَن الحاجُّ يا رسول الله؟ قال: "‌الشَّعثُ ‌التَّفِل"، فقام آخر فقال: أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال: "‌العَجُّ ‌وَالثَّجُّ"، فقام آخر فقال: ما السبيل يا رسول الله؟ قال: "الزاد والراحلة".

وهكذا رواه ابن ماجه من حديث إبراهيم بن يزيد وهو الخوزي. قال الترمذي: ولا نعرفه إلا مِن حديثه، وقد تكلَّم فيه بعض أهل العلم من قِبَل حفظه.

(قلتُ: قال الألباني في ضعيف الترمذي عن هذا الحديث: ضعيف جدًّا، وقال ابن حجر: طرقه كلها ضعيفة).

وقال في كتاب الحج: هذا حديث حَسَن لا يُشكُّ أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات سوى الخوزي هذا، وقد تكلَّموا فيه من أجل هذا الحديث، لكن قد تابعه غيره، فروى ابن أبي حاتم: عن محمد بن عباد بن جعفر قال: جلست إلى عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، وكذا رواه ابن مردويه من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير به.

ثم قال ابن أبي حاتم: وقد روي عن ابن عباس، وأنس، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسعيد بن جبير، والربيع بن أنس، وقتادة، نحو ذلك.

وقد رُوي هذا الحديث من طُرُق أخرى من حديث أنس، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وعائشة كلها مرفوعة، ولكن في أسانيدها مقال كما هو مقرَّر في كتاب الأحكام، والله أعلم.

وقد اعتنى الحافظ أبو بكر بن مردويه بجمع طرق هذا الحديث، ورواه الحاكم من حديث قتادة عن حماد بن سلمة، عن قتادة، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سُئِل عن قول الله عز وجل: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، فقيل ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، ثم قال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه.

(قلتُ: قال الدارقطني: الصحيح أنه مرسل، وكذا قال غير واحد مِن أهل العلم: الصحيح إرساله).

ورَوَى ابن جرير عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: "الزاد والراحلة"، ورواه وكيع.

(قلتُ: وقد دَلَّ حديثُ الخثعمية على: أن السبيل قد لا يُستطَاع مع وجود الزاد والراحلة؛ فقد لا يثبت الرجل على الراحلة مع ملكه لها، مع وجود الزاد؛ فدلَّ هذا الحديث على ضعف معنى الزاد والراحلة، أو يحمل معنى الزاد والراحلة على الأغلب الأعم. والفائدة في هذا الخلاف: فيمَن قَدَر على الحج ماشيًا: كواحدٍ مِن سكان الحَرَم، أو نحوه؛ فهذا يلزمه على قول مَن ضعَّف الحديث، ولا يلزمه على مَن صححه أو حسنه، والراجح أنه ضعيف).

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعجلوا إلى الحج -يعني الفريضة- فإن أحدَكم لا يدري ما يعرض له"، وروى أيضًا عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن أراد الحج فليتعجل"، ورواه أبو داود.

(قلتُ: حديث: "تعجَّلوا إلى الحج" مع ضعف إسناده -لأن فيه إسماعيل بن خليفة- ضعَّفه غيرُ واحدٍ؛ فقد حسَّن الألباني هذا الحديث لشواهده، وكذا حسَّن حديث أبي داود: "مَن أراد الحج فليتعجَّل"، مع ضعف إسناده أيضًا، لكن حسنه لكثرة الطرق والشواهد، وقد احتج بهذا الحديث -"تعجلوا إلى الحج"- ونحوه مَن يقول بأن الحجَ واجبٌ على الفور لمَن استطاع، والحديث مع ضعفه لا يصلح حجة؛ خصوصًا مع رواية: "مَن أراد الحج فليتعجل"؛ فإنه ردَّه إلى إرادته، وهذا واضح في أنه على التراخي، كما هو مذهب الشافعي رحمه الله، وهو الصحيح).

وقد رَوَى ابن جبير عن ابن عباس في قوله: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)، قال: مَن ملك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا.

وعن عكرمة مولاه أنه قال: السبيل الصحة.

وروى وكيع بن الجراح، بسنده عن ابن عباس قال: (مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قال: الزاد والراحلة.

(قلتُ: قول ابن عباس المنقول: مَن مَلَك ثلاثمائة درهم فقد استطاع إليه سبيلًا؛ فهذا محمول على زمنه ومكانه، وإلا فقد لا يستطيع مَن مَلَك هذا المبلغ في زماننا الحج إلى بيت الله الحرام. وأما قول عكرمة مولاه أن السبيل هو: الصحة؛ فهو يدل على أنه لا تلزم الراحلة لمَن قَدَر على المشي).

وقوله: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) قال ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: أي: ومَن جحد فريضة الحج؛ فقد كفر، والله غني عنه.

وقال سعيد بن منصور، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نزلت: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا ‌فَلَنْ ‌يُقْبَلَ ‌مِنْهُ) (آل عمران: 85)، قالت اليهود: فنحن مسلمون. قال الله عز وجل ‌فأخْصَمْهُم فحجهم؛ يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على المسلمين حج البيت مَن استطاع إليه سبيلًا"، فقالوا: لم يكتب علينا، وأبوا أن يحجوا، قال الله تعالى: (وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.  

وقال أبو بكر بن مردويه بسنده عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَن ملك زادًا وراحلة ولم يحج بيت الله؛ فلا يضره مات يهوديًّا أو نصرانيًّا، وذلك بأن الله قال: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ).

ورواه ابن جرير ورواه ابن أبي حاتم، ورواه الترمذي وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا مِن هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال مجهول، والحارث يُضعَّف في الحديث.

وقال البخاري: هلال هذا منكر الحديث. وقال ابن عدي: هذا الحديث ليس بمحفوظ.

وقد روى أبو بكر الإسماعيلي عن عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب يقول: "مَن أطاق الحج فلم يحج، فسواء عليه يهوديًّا مات أو نصرانيًّا"، وهذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه، ورَوَى سعيد بن منصور في سننه عن الحسن البصري، قال: قال عمر بن الخطاب: "لقد هممت أن أبعث رجالًا إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كلِّ منَ كان له جدة -أي: سعة- فلم يحج، فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين" (انتهى من تفسير ابن كثير).

(قلتُ: هذا الأثر الأخير الذي رواه سعيد بن منصور عن الحسن البصري مرسل؛ فإن الحَسَن لم يدرك عمر رضي الله عنه، ولا شك في صحة إسناد حديث عبد الرحمن بن غنم عن عمر رضي الله عنه، وهو محمول على الجاحد، أو محمول على الترهيب والتشديد في ترك الحج لمَن استطاع إليه سبيلًا، ولا يقول أحدٌ مِن أهل العلم بمقتضاه؛ خاصة أن الجزية لا تُفرَض على المرتد. والله أعلى وأعلم).

وللحديث بقية -إن شاء الله-.